خطبة عن ( هيا إلى الحسنات الجارية )
مارس 17, 2018خطبة عن (مواقف ودروس وعبر من غزوة الأحزاب)
مارس 24, 2018الخطبة الأولى ( قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (58) النساء، وروى الترمذي وغيره : (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ ».
إخوة الإسلام
لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة ،كتب إلى الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل ، فكتب إليه الحسن رحمه الله ، فكان من كلامه : ” اعْلَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الإِمَامَ الْعَادِلَ قِوّامَ كُلِّ مَائِلِ ،وَقَصْدَ كُلِّ جَائِرٍ ،وَصَلاحَ كُلِّ فَاسِدٍ ،وَقُوَّةَ كُلِّ ضَعِيف ،وَنَصَفَةَ كُلِّ مَظْلُوم ،وَمَفْزَعَ كُلِّ مَلْهُوف … وَالإِمَامُ الْعَادِلُ وَصِيُّ الْيَتَامَى ،وَخَازِنُ الْمَسَاكِين ،يُرَبِّي صَغِيرَهُمْ ، وَيَمُونُ كَبِيرَهُمْ . وَالإِمَامُ الْعَادِلُ هَوُ الْقَائِمُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، يَسْمَعُ كَلامَ اللهِ وَيُسْمِعَهُمْ ،وَيَنْظُر إِلى اللهِ وَيُرِيهم ،وَيَنْقَادُ إلى اللهِ وَيَقُودُهُمْ ، فَلا تَكُنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا مَلَّكَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ،كَعَبْدٍ ائْتَمَنَهُ سَيِّدُهُ وَاسْتَحْفَظَهُ مَالهُ وَعِيَالَه ، فَبَدَّدَ الْمَالَ وَشَرَّدَ الْعِيَالَ ،فَأَفْقَرَ أَهْلَهُ ، وَفَرَّقَ مَاله . وَأَعْلَمْ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْحُدُودَ ،لِيَزْجُرَ بِهَا عَن الْخَبَائِث وَالْفَوَاحِشِ ،فَكَيْفَ إِذَا أَتَاهَا مِنْ يَلِيهَا، وَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْقِصَاصَ حَيَاةً لِعِبَادِهِ ،فَكَيْفَ إِذَا قَتَلَهُمْ مَنْ يَقْتَصُّ لَهُمْ ،فَالآنَ وَأَنْتَ في مَهْلٍ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَل ،وَانْقِطَاعِ الأَمَلِ ،لا تَحْكُم فِي عِبَادِ اللهِ بِحُكْمِ الْجَاهِلِينَ ،وَلا تَسْلُكَ بِهِمْ سَبِيلَ الظَّالِمِينَ ، وَلا تُسَلِّطْ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفينَ ،فَإِنَّهُمْ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ،فَتَبُوءَ بِأَوْزَارِكَ ،وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكَ ، وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالَكَ . وَلا يَغُرَّنَّكَ الَّذِينَ يَتَنَعَّمُونَ فِي بُؤْسِكَ وَيَأْكُلُونَ الطَّيِّبَاتِ في دُنْيَاهُمْ ،بِإِذْهَابِ طَيِّبَاتِكَ في آخِرَتِكَ ،وَلا تَنْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ الْيَوْمَ ،وَلَكِنْ انْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ غَداً ،وَأَنْتَ مَأْسُورٌ فِي حَبَائِلِ الْمَوْتِ ،وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَي اللهِ في مَجْمَعٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ،وَقَدْ عَنِتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ،الَّذِي لا تَأْخُذُهُ سِنَةُ وَلا نَوْم . ” الحسن البصري لابن الجوزي،
أيها المسلمون
إن أشدَّ ما تُصاب به دولة من الدول ، أو مؤسسة من المؤسسات ، أو حتى بيت من البيوت ، أن يكون حاكمها ، أو قاضيها ، أو مديرها وقائدها ظالما ، وغير عادل في أحكامه ، فكيف إذا جمع مع الظلم غدرا وكذبا وخيانة ؟! لذا فقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل العدل ، وبشرهم بالجنان ، وحذر أهل الأهواء والظلم والجور ووعد بالخسران ، ففي صحيح مسلم (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ». وفي صحيح مسلم : (قَالَ صلى الله عليه وسلم : وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ – قَالَ – وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ الضَّعِيفُ الَّذِى لاَ زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً وَالْخَائِنُ الَّذِى لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ». وعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ « أَلاَ تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ » . قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِى وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَداً . قَالَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « صَدَقَتْ صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ » . رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه وحسنه الألباني ،فالله سبحانه وتعالى ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ، قال الله تعالى : {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ *فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (النمل :50-52) ، وما أجمل قول من قال :
إِذا خَـــانَ الأميرُ وكاتباهُ *** وقاضِي الأَرْضِ داهَنَ في القَضاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلُ *** لِقاضِي الأَرْضِ منْ قَاضِي السَّــمــاءِ
وإِنْ كانَ الوِدادُ لِذِي وِدادٍ *** يُزْحْــــزِحُـهُ عَنِ الحَقِّ الْجَلاءِ
فَلاَ أَبْقــاهُ رَبُّ العَرْشِ يَوْماً *** كَــحَـــلَـــهُ بِمِيلٍ مِنْ عَماءِ
والظلم وعدم العدل بين الرعية ، أو المتخاصمين ، لهو من أعظم الذنوب ، ومن أكبر الكبائر ، وقد روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :« إِنِّي حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِى الظُّلْمَ وَعَلَى عِبَادِي فَلاَ تَظَالَمُوا » ، وفي صحيح مسلم : (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ». وقد خاطب الله نبيه داود فقال عز وجل : {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (ص:26) ، وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ دَيْناً كَانَ عَلَيْهِ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلاَّ قَضَيْتَنِي . فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا وَيْحَكَ تَدْرِى مَنْ تُكَلِّمُ قَالَ إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم « هَلاَّ مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ » . ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا « إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَكِ » . فَقَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ فَأَقْرَضَتْهُ فَقَضَى الأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ . فَقَالَ « أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ إِنَّهُ لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ » . رواه ابن ماجة وصححه الألباني .
أيها المسلمون
وفي قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقدم ذكره « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ ». فالمقصود بالقاضي: هو كل من حكم بين اثنين أو أكثر ،في قضية صغرت القضية أم كبرت ، وكلما تعدد أطراف القضية وما يترتب عليها من حُكم ، كلما اشتدت مهمة القاضي ، وعظمت مسؤوليته ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ وَلِيَ القضاء فقدْ ذُبِحَ بغيْر سِكِّين) رواه أبو داود وصححه الألباني. فكلمة قاضي تعني أولا : القضاة المعينون في المحاكم . ثانيا :- القاضي الذي اتفق الخصمان على التحاكم إليه والالتزام بقوله . ثالثا :- المدرس عندما يفصل بين طالبين متنازعين ويلزمهما بما يحكم به . وكذلك يكون المدرس قاضياً وحاكماً بين الطلبة عند تصحيحه اختبارات الطلبة ، وتقديره درجات الإجابة ، وتقديره الدرجات التي يحصلون عليه مقابل أنشطتهم وسلوكهم . رابعا :- مدير الشركة أو المؤسسة و(كذلك الشئون القانونية)الذي يحكم للموظفين أو عليهم بما يستحقونه من تكريم ومكافآت أو عقوبات . خامسا : – شرطي المرور الذي يحكم بين المتنازعين في حادث تصادم ـ مثلاً ـ فيحكم بأن الخطأ على فلان ، أو أن نسبة الخطأ كذا … فهذا قاضٍ ، لأنه يحكم بين الخصمين ويلزمهما بحكمه . وعلى الإجمال: فإن كل من حكم بين الناس أو الجماعات والمؤسسات وكان حكمه ملزماً لهم فهو القاضي ، فإن كان حكمه مبنياً على الجهل والظلم فهو متوعد بأن يكون من أهل النار ، وإن كان حكمه مبنياً على العلم والعدل فهو موعود بالجنة . فالنوع الأول من القضاة : هو القاضي الذي عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، والمراد بالحق ما كان وفق أحكام القرآن و السنة ،أو مستنبط منهما استنباطا شرعيا ، ممن له أهلية لذلك ،فإن اجتهد في قضية وفق الشرع مستغرقا الوسع فيها،عالما بالأحكام قاضيا وفقها ،نال الجنة لعدله وإنصاف الظالم من المظلوم ،واعطاء كل ذي حق حقه ، والنوع الثاني: القاضي الذي قضى بالجهل وعدم المعرفة، وهو متوعد بالنار لأنه بجهله يكون ظالما لنفسه -لأنه ليس أهلا لذلك – و لغيره ،حيث بجهله لا يحقق العدل لمستحقه ولا يوصله إليه ،ولا تنقطع المنازعات ، والنوع الثالث: القاضي الذي قضى بغير الحق مع العلم، وهو متوعد، وهو في النار– لأنه يقضى بالظلم ،وهو عالم بذلك ،فيكون ظالما لنفسه ،ولغيره حيث بجوره لا يحقق العدل لمستحقه المطلوب منه شرعا و لا يوصله إليه .فاستحق بذلك الوعيد بالنار
أيها المسلمون
أما أنت أيها المظلوم في الدنيا ،ويا من جار عليك قاضي الأرض ، فاصبر، فإذا فسد القضاء ،وخاب الأمل في قاض الأرض ، وضاعت الحقوق في الدنيا ، فلا تحزن ، فحقك لن يضيع ، فالفصل في القضاء سوف يكون بين يدي الله في محكمة الحق الإلهية , فهناك يوم للحكم والفرقان ،والفصل بالعدل والميزان . وهو اليوم الموعود الموقوت ،بأجل عند الله معلوم ومحدود ،للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية ، والقضاء بحكم الله فيها ، وإعلان الكلمة الأخيرة والحكم النهائي البات ، قال الله تعالى : {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } (المرسلات 11-: 15) ،وفي هذا اليوم ،الويل لمن ظلم وبغي وتعدي ،وضيع حقوق المظلومين والضعفاء .
إذا ما الظلوم استوطأ الظلم مركباً … ولج عتواً في قبيح اكتسابه
فكله إلى صرف الزمان وعدله … سيبدو له ما لم يكن في حسابه
فيا أيها المظلوم صبرا، فالله تبارك وتعالى يقول : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ*يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (الدخان:41)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى :{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } (النبأ :17-18) ،ففي هذا اليوم يجتمع الظالم والمظلوم ،والقاتل والمقتول ،والجاني والمجني عليه ، فتبلي السرائر ،وتظهر الحقائق ،ويعطي المظلوم حقه ، قال الله تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (الأنبياء: 47) ،وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( يَجِيءُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَأْسِ صَاحِبِهِ – وفي لفظ : يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا – يقُولُ : رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ قَتَلَنِي ؟ ) ،وفي رواية (( فَيَقُولُ قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلانٍ )) رواه أحمد وغيره وصححه الألباني .
أَمَا وَاللهِ إِنَّ الـظُّـلْـمَ لُــؤْمٌ *** وَمَـا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيـَّـانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي *** وَعِنْــدَ اللهِ تَجْـتَمِعُ اْلخُصُومُ
سَتَعَلَمُ فِي اْلحِسَـابِ إِذَا الْتَقَيْنَا *** غَـدًا عِنْـدَ الْإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
في هذا اليوم ،تجتمع الخلائق للقضاء الحق ،وقاعة المحكمة يعلوها الصمت التام ،فلا يعلو إلا صوت الحق ، قال الله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (طه : 108) ، وليس هناك محامون ، ولا شفعاء، قال الله تعالى : { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (طه : 109) ، والقاضي فيها يحكم بعلمه ،فلا يخفي عليه شيء ، يعلم السر وأخفى ، قال الله تعالى : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } (الحاقة :18) ، ولا بد من إحضار المتهم فليس فيها حكم غيابي ، قال الله تعالى : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (الزمر: 16) ، والجهة التنفيذية فيها مأمورون بأمر الله ، لا يعصون الله ما أمرهم ، قال الله تعالى : {مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم :6) ، والمتهم لا يستطيع الفرار ، ولا تغيب عنه الأبصار ، قال الله تعالى :{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (طه : 111) ، والمظلوم حتما سيشفي الله غليله ،ويذهب غيظه ، وينال حقه ، ولا يظلم فتيلا ، قال الله : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } (طه : 112) ، والميزان حساس ،بمثقال الذرة ،ولا يضيع فيها حق ،ولا يتبدد ولا يسقط الحكم بالتقادم .عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ – أَوْ قَالَ الْعِبَادُ – عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً » . قَالَ قُلْنَا وَمَا بُهْماً قَالَ « لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ » . قَالَ قُلْنَا كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً . قَالَ « بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ » رواه أحمد وصححه الألباني ، وأما الشهود فيها ؛ فهناك تسجيل لكل الأحداث ،فمن علَّم الإنسان التوثيق بالصوت والصورة بوسائل التكنولوجيا الحديثة ،أيعجز عن توثيق ظلمهم صوتا وصورة ؟!!! فهناك سجلات مدونة لظلمهم {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثية : 28- 29) ،وهناك ملائكة حفَّاظ ، وكرام كاتبون ، قال الله تعالى : {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف:80) وتَحْدُث في هذا اليوم المفاجآت فيشهد علي الظالم جوارحه ، قال الله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } (النور :24- 25) ويكفينا أن الله هو الشاهد والمطلع ،وهو الحاكم ، وهو المنفذ للأحكام ، فسبحانه وتعالى هو علام الغيوب، قال الله تعالى : { فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (يونس:29-30) ،وقال الله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (17) :(19) غافر
الدعاء