خطبة عن مبطلات الأعمال ومحبطاتها ،وقوله تعالى ( وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ )
أغسطس 16, 2025الخطبة الأولى (كُنْ فِي الدُّنْيَا عَابِرَ سَبِيلٍ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام البخاري في صحيحه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِمَنْكِبي فَقَالَ «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ).
إخوة الاسلام
هذا الحديث النبوي الكريم فيه الحثّ على الرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، وعدم التَّعلق بها، أو إيثارها على الآخرة؛ لأنَّ هذه الدار دارُ العمل، ودار الامتحان، والفتنة والاختبار، والآخرة هي دار القرار، ودار الجزاء، فجديرٌ بالمؤمن أن يعدَّ العدة في هذه الدار، للدار الآخرة، قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]، فالدنيا هي دارٌ المحن والبلايا، والاختبار والامتحان، فيجب على المؤمن أن يحذرها، وأن يعد العدةَ للآخرة، قال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر:18]، وقال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (19) الاسراء،
والنبي ﷺ في هذا الحديث أوصى بالتَّقلل من الدنيا، وعدم الركون إليها؛ لأنَّك إذا ركنتَ إليها، قد تُبْتَلَى بمحنٍ كثيرةٍ: من ترك الواجبات، وركوب المحرَّمات، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ». فالمُؤمِنُ يجعَلُ الدُّنيا دارَ عَمَلٍ وعبادةٍ، لِيَحصُدَ ثوابَ ذلك في الآخِرةِ؛ لأن الآخرةَ هي دارُ القَرارِ، وليْستِ الدُّنيا إلَّا دارًا فانيةً، سَتَنْتهي إنْ عاجلًا أو آجلًا.
أيها المسلمون
والمتدبر للحديث النبوي الشريف، والمتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، فالمعنى «كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غَريبٌ» أي: حالك مثل حال الانسان المسافر الغريب، الذي قَدِم بَلدًا لا مَسْكنَ له فيه يُؤوِيه، ولا ساكِنَ يُسلِّيه، فهو خالٍ عن الأهلِ والعيالِ والعَلائقِ، التي هي سَببُ الاشتغالِ عن الخالِقِ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أو عابِرَ سَبيل» أي: أو كُنْ كالذي خرَج مُسافِرًا، يَمُرُّ بالبِلادِ، غيرَ مُتوقِّفٍ فيها إلَّا لِيَتزوَّدَ منها؛ فعابرُ السَّبيلِ أشدُّ زُهدًا في مُغرَياتِ طَريقِه مِن الغَريبِ؛ لأنَّ الغَريبَ قدْ يَسكُنُ في بِلادِ الغُربةِ، ويُقيمُ فيها، بخِلافِ عابِرِ السَّبيلِ القاصِدِ للبَلَدِ، وبيْنَه وبيْنَ بلدِه مَسافاتٌ شاسِعةٌ، وهو في حالةِ تَخفُّفٍ دائمةٍ مِن الأثقالِ، حتى لا تُعيقَه، أو تُؤخِّرَه عن بُلوغِ مَقصدِه.
وقد قيل: أنَّ (أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) ف «أو» للإضرابِ، بمَعْنى «بلْ»، والمعنى: بلْ كُنْ كأنَّك عابرُ سَبيلٍ، وهو ارتِفاعٌ به إلى مَنزلةٍ أعْلَى في الزُّهدِ مِن مَنزلةِ الغَريبِ، فعلى المُؤمنِ أنْ يَستحضِرَ في قلبِه دائمًا حالةَ الغريبِ، أو المُسافِرِ لحاجتِه وغايتِه، في تَعامُلِه مع شَهواتِ الدُّنيا ومُتطلَّباتِها؛ ليَصِلَ بذلك إلى آخِرتِه -التي هي دارُ إقامتِه الدَّائمةِ- في أسْلَمِ حالٍ؛ فهو لا يَركَنُ إلى الدُّنيا، بلْ يُعلِّقُ قلْبَه بالدَّارِ الآخِرةِ، فإذا فاجَأَه الموتُ، كان كمَنْ وصَلَ إلى غايتِه، فالمؤمن في هذه الحياة الدنيا، لا يتكثر منها، ولا يعلق قلبه بها، ولا يشغل جوارحه في جمعها،
وقد يقول قائل: لابد من الكسب، ولابد من العمل، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يمشون في الأسواق، ويكتسبون، فنقول: هذا أمر مطلوب، ولا يتعارض مع الحديث، فلا بد أن يعمل المرء، حتى لا يحتاج إلى الناس، ولكن المطلوب: ألا يشتغل القلب بها، ولا تكن الدنيا هي غايته وطلبته، التي من أجلها يقوم ويقعد، ولا تكون هذه الدنيا هي محل الاشتغال في الليل والنهار، فيضيع من يعول، ويضيع حقوق الله تعالى، بسبب اشتغاله بها، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ»، وفي صحيح البخاري: (عَنِ الْمِقْدَامِ – رضي الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»،
فخذ من الدنيا ما يكفيك ويغنيك عن الناس، دون أن تكون متبعاً لأطماع النفوس، وشهواتها، فإن ذلك لا ينقطع إلا بالموت، وفي الصحيحين: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ». فالإنسان يطلب الرزق، ويعمل، ويستغني عمَّا في أيدي الناس، حتى يزهد فيما في أيديهم، وإذا زهد في الدنيا أحبَّه الله؛ لأنَّه آثر الآخرةَ على الدنيا، وآثر طاعة ربه على هذه الدار، وليس معناه الترك، لا، بل يعمل ويتسبب ويأخذ بأسباب الرزق: من البيع والشراء، والنِّجارة، والحدادة، إلى غير ذلك، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».
أيها المسلمون
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». فهذا الحديث هو أصل في قصر الأمل في الدنيا، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: (يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (39) غافر. وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشاً أَوْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا». وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ». وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ اشْتَكَى سَلْمَانُ فَعَادَهُ سَعْدٌ فَرَآهُ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا يُبْكِيكَ يَا أَخِي أَلَيْسَ قَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلَيْسَ أَلَيْسَ قَالَ سَلْمَانُ مَا أَبْكِي وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ مَا أَبْكِي صَبًّا لِلدُّنْيَا وَلاَ كَرَاهِيَةً لِلآخِرَةِ وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَمَا أُرَانِي إِلاَّ قَدْ تَعَدَّيْتُ. قَالَ وَمَا عَهِدَ إِلَيْكَ قَالَ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ يَكْفِي أَحَدَكُمْ مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ وَلاَ أُرَانِي إِلاَّ قَدْ تَعَدَّيْتُ وَأَمَّا أَنْتَ يَا سَعْدُ فَاتَّقِ اللَّهَ عِنْدَ حُكْمِكَ إِذَا حَكَمْتَ وَعِنْدَ قَسْمِكَ إِذَا قَسَمْتَ وَعِنْدَ هَمِّكَ إِذَا هَمَمْتَ. قَالَ ثَابِتٌ فَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَا تَرَكَ إِلاَّ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ نَفَقَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ).
وفي سنن الدارمي: (عَنْ هِشَامٍ صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِيِّ قَالَ قَرَأْتُ فِي كِتَابٍ بَلَغَنِي أَنَّهُ مِنْ كَلاَمِ عِيسَى: تَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا وَأَنْتُمْ تُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ. وَلاَ تَعْمَلُونَ لِلآخِرَةِ وَأَنْتُمْ لاَ تُرْزَقُونَ فِيهَا إِلاَّ بِالْعَمَلِ، وَإِنَّكُمْ عُلَمَاءَ السَّوْءِ، الأَجْرَ تَأْخُذُونَ وَالْعَمَلَ تُضَيِّعُونَ، يُوشِكُ رَبُّ الْعَمَلِ أَنْ يَطْلُبَ عَمَلَهُ، وَتُوشِكُونَ أَنْ تَخْرُجُوا مِنَ الدُّنْيَا الْعَرِيضَةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ، اللَّهُ نَهَاكُمْ عَنِ الْخَطَايَا كَمَا أَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ، كَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ سَخِطَ رِزْقَهُ وَاحْتَقَرَ مَنْزِلَتَهُ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ؟ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنِ اتَّهَمَ اللَّهَ فِيمَا قَضَى لَهُ فَلَيْسَ يَرْضَى شَيْئاً أَصَابَهُ؟ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ دُنْيَاهُ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا أَفْضَلُ رَغْبَةً؟ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ مَصِيرُهُ إِلَى آخِرَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى دُنْيَاهُ وَمَا يَضُرُّهُ أَشْهَى إِلَيْهِ – أَوْ قَالَ أَحَبُّ إِلَيْهِ – مِمَّا يَنْفَعُهُ؟ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَطْلُبُ الْكَلاَمَ لِيُخْبِرَ بِهِ وَلاَ يَطْلُبُهُ لِيَعْمَلَ بِهِ؟)،
وقيل: أنه من وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال لهم: (اعبروها ولا تعمروها) ، وقال لهم: (من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنيا ، فلا تتخذوها قرارا)، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل)، وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: (إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)،
وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك. وقال: ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك ، يوضعك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار ، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطرا، وقال: الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم. وقال داود الطائي: (إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها، فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (كُنْ فِي الدُّنْيَا عَابِرَ سَبِيلٍ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقدْ تعَلَّم ابنُ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عنهما) من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعى هذا الدَّرسَ، فكان يقولُ لنَفسِه ولغيرِه: (يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ)، أي: لا تُؤخِّر عَمَلًا مِن الطَّاعاتِ إلى الصَّباحِ؛ فلعلَّك تكونُ مِن أهلِ القُبورِ، وإذا أصبَحْتَ فلا تُؤخِّرْ عَمَلَ الخيرِ إلى المساءِ؛ فقدْ يُعاجِلُك الموتُ، واغتنِمِ الأعمالَ الصَّالحةَ في الصِّحَّةِ، قبْلَ أنْ يحُولَ بيْنك وبيْنها المرضُ، واغتنِمْ حَياتَك في الدُّنيا، فاجمَعْ فيها ما يَنفَعُك بعْدَ مَوتِك.
فوصية ابن عمر (رضي الله عنهما) هي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل، وبهذا فسر غير واحد من العلماء الزهد في الدنيا، قال المروزي: قلت لأبي عبد الله – يعني أحمد – أي شيء الزهد في الدنيا ؟، قال: قصر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي، قال: وهكذا قال سفيان. وقال بعض السلف: ما نمت نوما قط، فحدثت نفسي أني أستيقظ منه. وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة. وقال عون بن عبد الله: ما أنزل الموت كنه منزلته من عد غدا من أجله، كم من مستقبل يوما يستكمله، وكم من مؤمل لغد لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره، لبغضتم الأمل وغروره، وكان يقول: إن من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره.
وقوله ابن عمر: (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)، يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت، وفي رواية: فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا، يعني: لعلك غدا من الأموات دون الأحياء. وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ». فالمراد من هذا، أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال، فبعضها يشغل عنه، إما في خاصة الإنسان، كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته، وبعضها عام، كقيام الساعة، وخروج الدجال، وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (158) الانعام،
وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ،فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «ثَلاَثٌ إِذَا خَرَجْنَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالُ وَدَابَّةُ الأَرْضِ». وفي سنن الترمذي: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلاَّ نَدِمَ». قَالُوا وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ ازْدَادَ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ نَزَعَ»،
فإذا كان الأمر على هذا، فيتعين على المؤمن اغتنام ما بقي من عمره، قال بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي.
الدعاء