خطبة عن (مع القرآن وتجلياته)
يوليو 23, 2024خطبة عن (اغضض بصرك)
يوليو 24, 2024الخطبة الأولى (لاَ تُحْصِي فَيُحْصَى عَلَيْك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ عَنْ عَبْدَةَ وَقَالَ «لاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»، وفي الصحيحين: (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ – رضي الله عنهما – أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ «لاَ تُوعِي(تمسكي) فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، ارْضَخِي(أعطى) مَا اسْتَطَعْتِ»، وفي رواية مسلم: «انْفَحِي – أَوِ انْضَحِي أَوْ أَنْفِقِي – وَلاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ أَفَأُعْطِي قَالَ «نَعَمْ وَلاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ». يَقُولُ لاَ تُحْصِي فَيُحْصَى عَلَيْكِ). وفي سنن النسائي: (قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ عَلَيَّ سَائِلٌ مَرَّةً وَعِنْدِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرْتُ لَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ دَعَوْتُ بِهِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَمَا تُرِيدِينَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ بَيْتَكِ شَيْءٌ وَلاَ يَخْرُجَ إِلاَّ بِعِلْمِكِ». قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ لاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكِ».
إخوة الإسلام
إن المتدبر لهذه الأحاديث المتقدمة، يتبين له أنها ترشد المسلم إلى الإنفاق في سبيل الله، وتحذر من البخل والشح، والتقتير والإمساك، وفيها النهي عن عدِّ الصدقات، فلا تكنز مالك في وعاءٍ، أو تَشُدّه بوكاءٍ، وتمنعه المحتاجين والفقراء، فيمنعك الله كما منعت، ويقتر عليك كما قترت، ويمسك فضلهُ عنك كما أمْسكت، ولا تُحصي ما تُعطي، فتستكثرهُ نفسُك، فيكون ذلك سببا في انقطاعه، ومنعك له، ولا تَدَّخِر المالَ وتُمسِكه عن الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ والتَّصَدُّقِ منه؛ فيَكونَ ذلك سَببًا في أنْ يَمنَعَ اللهُ عنك بَرَكتَه وزِيادتَه ونَماءَه، فأنفِق بغَيرِ إجحافٍ، ما دُمْت قادِرا ومُستطيعا،
ولعلَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ أسماء بذلِك ولم يَذكُرْ في الحديث إذنَ زَوْجِها؛ لِمَا عَلِمَه صلى الله عليه وسلم مِن سَماحةِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنه، التي اشتَهَرَ بها، فإنفاقُ المرأةِ مِن مالِ زَوجِها بغير إذنه مَشروعٌ، إذا عَلِمتْ سَماحتَه، وعلمت أنَّه لا يَكرَهُ ذلك منها، أو كانتْ عادةً عوَّدَها عليها، أو لم يكُنِ العطاءُ كَثيرًا مُجحِفًا، حيث لا يُؤثِّرُ نُقصانُه على العِيالِ، ولم تَتجاوَزِ القدْرَ المعتادَ، ولم تَقصِدْ تَبديدَ مالِه، وفي الصَّحيحينِ: (مِن حَديثِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها قالت: قال رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذا أنْفَقَت المرأةُ مِن طَعامِ بَيتِها غيرَ مُفسِدةٍ، كان لها أجْرُها بما أنْفَقَت، ولزَوجِها أجْرُه بما كَسَبَ، وللخازنِ مِثلُ ذلك، لا يَنقُصُ بَعضُهم أجْرَ بَعضٍ شَيئًا». وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما حذرنا من الإمساك والشح والبخل: ففي سنن أبي داود ومسند أحمد: قال صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ». ففي ذلك رسالة تحذير إلى كل نفس لم توق شحها، ولم تنج من شر نفسها، وسيئات أعمالها، فالإيمان والشح لا يجتمعان في قلب، ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «.. وَلاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الإِيمَانُ وَالشُّحُّ».
والشح والبخل والامساك، هذه الخصال الذميمة، طهَّر الله منها أنبياءه، ووقى شر تأصلها في نفوس أوليائه، لما لها أثر شنيع، وخطر فظيع، على الأفراد والمجتمعات؛ حيث تورث النفوس الهلع والطمع، والجمع دون إنفاق، والأخذ دون عطاء، ففي صحيح البخاري: (قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَمَعَهُ النَّاسُ ، مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ ، فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ كَذُوبًا وَلاَ جَبَانًا»، وفي الصحيحين (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ «مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ).
أما من جعل المال وسيلة يتقى الله فيها، ويتقرّب إليه بها، براً وإحساناً، وإنفاقاً في سبيله، وجبراً ومواساة لعباده، ولم يجعلها هدفاً وغاية، ووسيلة لمحاربة الله، ومحاربة دينه، وجبياً من غير حلٍّ، وإنفاقاً في معصية، وتعاملاً بما حَرُمْ، فقد فاز في الدارين، لذا، فقد حرم الله تعالى الشح والبخل والامساك، وعدم الانفاق في سبيل الله، فقال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) التغابن (16)، (17)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ».
أيها المسلمون
ويقول الله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]، ويقول سبحانه: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9]، ويقول تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [البقرة:274]. وفي الصحيحين: (عن أَبي هريرة رضي الله عنه: أَنه سَمِع رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: مَثَلُ البَخِيلِ والمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِن حَديدٍ مِنْ ثُدِيِّهِما إِلى تَرَاقِيهمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا البَخِيلُ فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُو يُوَسِّعُهَا فَلا تَتَّسِعُ)، وفي الصحيحين: (قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ- فَإِنَّ اللَّه يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيها لِصَاحِبِها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبلِ)، وفي صحيح مسلم: (عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: بيْنَما رَجُلٌ يَمشِي بِفَلاةٍ مِن الأَرض، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ، فإِذا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوعَبَتْ ذلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإِذا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَاللَّهِ، ما اسْمُكَ؟ قال: فُلانٌ، للاسْمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحَابَةِ، فقال له: يَا عَبْدَاللَّهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَال: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحَابِ الَّذِي هذَا مَاؤُهُ يقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيها؟ فَقَالَ: أَمَا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإنِّي أَنْظُرُ إِلى مَا يَخْرُجُ مِنها، فَأَتَصَدَّقُ بثُلُثِه، وآكُلُ أَنا وعِيالي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فِيها ثُلثَهُ)
فالمشروع للإنسان المسلم الإنفاق والإحسان، وعدم الشح والبخل والتقتير، حتى ولو على أقاربه الكفّار، (إذا لم يكونوا حربًا لنا)، في حال الصلح والأمان؛ لأنَّ في هذا صلةَ رحم، وفيه دعوة لهم إلى الإسلام، وتأليفًا لقلوبهم، فيُشرع للمؤمن أن يُنفق عليهم ويُحْسِن إليهم، فالإنفاق يأتي بالخير، وعلى المؤمن أن يُنفق في وجوه البرِّ ولو بالقليل، ولا يحقر معروفا، فيتصدق على السَّائلين والفقراء، ويعطي جاره المحتاج، ففي الصحيحين: (عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ «اتَّقُوا النَّارَ». ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ»، فالإنفاق في أوجه الخير، والتيسير على المعسرين، هو باب من أبواب الخير، وسبب من أسباب دخول الجنة، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ حُذَيْفَةَ – رضي الله عنه – حَدَّثَهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا قَالَ كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ قَالَ قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ». وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ «كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ»، فالمؤمن ينفق لله عز وجل، فينفق الله عز وجل عليه في الدنيا، ويعطيه الأجر العظيم في الآخرة، ويقيه عذاب النار، ويدخله الجنة .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لاَ تُحْصِي فَيُحْصَى عَلَيْك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:261،262]. وقال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد:7]. وروى الشيخان: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا. وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ».
وللإنفاق في سبيل الله تعالى شروط ،وآداب، وفوائد، وثمرات: فمن شروط الإنفاق في سبيل الله: أن تخلص النية لله في ذلك، فتنفق رجاء ثوابه، وابتغاء مرضاته، قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى) الليل: (17): (21)، ومن شروطه: أن يكون ما تنفقه حلالا، لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وألا يكون إنفاقك على من تنفق عليه إعانة له على الإثم والباطل، لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) {المائدة:2}. ومن شروطه: عدم المن والأذى: فهذا لا يتفق مع ما فطر الله تعالى النفس الإنسانية عليه من الكرامة والعزة، فالنفس تأبى أن يكون هذا العطاء مقروناً بمن أو أذى، لأنه يخدش كرامة النفوس، ويجرح مشاعرها، ومن هنا جعل الله سبحانه الصدقات المقرونة بالمن والأذى باطلة غير مقبولة، قال تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (263)، (264) البقرة، ومن آداب الانفاق في سبيل الله: الوسطية فيه، قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) {الإسراء:29}. وأفضلها أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ. تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ»، والأقربون أولى بالمعروف، فتنفق على نفسك، وزوجك وولدك، ثم أدناك فأدناك، ففي سنن أبي داود: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ. فَقَالَ «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ». قَالَ عِنْدِي آخَرُ. قَالَ «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ». قَالَ عِنْدِي آخَرُ. قَالَ «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ». أَوْ قَالَ «زَوْجِكَ». قَالَ عِنْدِي آخَرُ. قَالَ «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ». قَالَ عِنْدِي آخَرُ. قَالَ «أَنْتَ أَبْصَرُ».
أما عن فوائد وثمرات الانفاق في سبيل الله، فمنها: أن الإنفاق في سبيل الله تعالى طُهرة لنفس المسلم، وقُربة إلى الله عز وجل. والإنفاق في سبيل الله تعالى طريقٌ إلى محبة الله تعالى ورضوانه على المسلم في الدنيا والآخرة. وهو يحفظ المسلم في ماله وأهله، وهو دليل على الزهد في الدنيا، وباب من أبواب التكافل الاجتماعي، ويساعد المسلم على اكتساب محبة الناس واحترامهم.
الدعاء