خطبة عن (كيف تحقق التقوى؟)
أبريل 22, 2024خطبة عن (لولا الستر لافتضح الأمر) مختصرة
أبريل 22, 2024الخطبة الأولى (لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذِرُوا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام أحمد وغيره: (أن أَبَا الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيَّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، وفي رواية لأبي داود: (قَالَ «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يَعْذِرُوا أَوْ يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ».
إخوة الإسلام
إن الله تبارك وتعالى إنما يهدي من كان أهلاً للهداية، ويضل من كان أهلاً للضلالة، قال الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) الصف:5، وقال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) المائدة:13. فبين الله سبحانه وتعالى أن أسباب إضلاله لمن ضل، إنما هو بسبب من العبد نفسه، والعبد لا يدرى ما قَدَّر الله تعالى له، لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور. فما بال الانسان يسلك طريق الضلالة، ثم يحتج بأن الله تعالى قد أراد له ذلك، أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول: إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم .
فالإنسان له قدرة، وله اختيار، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق، فالإنسان قد قُدِّر له ما قُدِّر من الرزق، ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق يميناً وشمالاً، ولا يجلس في بيته ويقول: إن قُدِر لي رزق فإنه يأتيني، بل يسعى في أسباب الزرق، مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل، فهذا الرزق أيضا مكتوب، كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب،
وبهذا تبين لنا: أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيراً اختيارياً، وأنه كما يسير لعمل دنياه سيراً اختيارياً، فكذلك أيضا هو في سيره إلى الآخرة، يسير سيراً اختيارياً، بل إن طرق الآخرة أبين بكثير من طرق الدنيا؛ لأن مبين طرق الآخرة هو الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا بد أن تكون طرق الآخرة أكثر بيانا، وأجلى وضوحا، من طرق الدنيا. ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا التي ليس ضامنا لنتائجها، ولكنه يدع طرق الآخرة، التي نتائجها مضمونة معلومة؛ لأنها ثابتة بوعد الله، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد. ومعتقد أهل السنة والجماعة: أن الإنسان يفعل باختياره، وأنه يقول كما يريد، ولكن إرادته واختياره تابعان لإرادة الله تبارك وتعالى ومشيئته. ومشيئة الله تعالى تابعة لحكمته؛ فمن أسماء الله تعالى الحكيم، والحكيم هو الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كوناً وشرعاً، ويحكمها عملاً وصنعاً، والله تعالى بحكمته يقَدِّر الهداية لمن أرادها، لمن يعلم سبحانه وتعالى أنه يريد الحق، وأن قلبه على الاستقامة. ويقَدِّر الضلالة لمن لم يكن كذلك، فإن حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين،
هكذا يفهم المسلم قضية الإيمان بالقضاء والقدر، مع قضية العمل الذي كلف به الإنسان، ويترتب عليه سعادته أو شقاؤه، فالهداية ودخول الجنة سببها العمل الصالح. قال الله تعالى عن أهل الجنة: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الأعراف:43، وقال تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل:32. والضلال ودخول النار سببه العمل بمعصية الله، والإعراض عن طاعته، قال الله تعالى عن أهل النار: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) يونس:52، وقال تعالى: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) السجدة:14.
فإذا علم الانسان ذلك، فحينئذ يضع خطوته الأولى في الطريق الصحيح، فلا يضيع لحظة واحدة بغير عمل، أو سعي في طريق الله عز وجل، وفي الوقت نفسه، يتواضع لربه، ويدرك أنه عز وجل بيده مقاليد السماوات والأرض، فيستشعر الفقر إليه دائما وأبدا، والحاجة إلى توفيقه وتسديده.
أيها المسلمون
وليكن معلوما لدينا: أن الهدى في القرآن الكريم يستعمل على استعمالين: أحدهما عام، والثاني خاص، فأما الهدى العام فمعناه: إبانة طريق الحق، وإيضاح الحجة، سواء سلكها المبيّن له أم لا، ومنه بهذا المعنى، قوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت:17)، أي بينا لهم طريق الحق، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الانسان:3) وأما الهدى الخاص فهو: تفضل الله على العبد بالتوفيق، ومنه بهذا المعنى، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90)، وقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:125)، وبهذا يرتفع الإشكال بين قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)، مع قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)، فهدى الناس المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو الهدى الخاص، لأن التوفيق بيد الله وحده، وإلى هذين المعنيين ترد كل الأعمال المسندة إلى العبد، فإن المهتدي هو من هداه الله وبهدي الله اهتدى، وبإرادة الله تعالى كان ذلك، لا أنه مستقل بالهدى،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذِرُوا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي هذا الحديث النبوي الذي بين أيدينا اليوم: يقول صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، وفي رواية لأبي داود: قَالَ «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يَعْذِرُوا أَوْ يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ». فالمراد من الحديث أن الله سبحانه وتعالى لا يهلك الناس حتى يكثروا من الذنوب، ثم لا يتوبون منها، فعند ذلك، لم يبق لهم عذر، فيستحقون العقوبة، ويكون لله سبحانه وتعالى أبلغ العذر في عقوبتهم. فتَعمُّدُ فِعلِ المعصيةِ مِن أكبرِ أسبابِ الهَلاكِ، وفي رواية لهذا الحديث: (ما هلك قومٌ حتَّى يُعذروا من أنفسِهم. قال: قلتُ لعبدِ الملِكِ: كيف يكونُ ذاك؟ قال: فقرأ هذه الآيةَ: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5]، فتَعمُّدُ فِعلِ المَعصيةِ مِن أكبرِ أسبابِ الهَلاكِ، وإنَّ اللهَ سُبحانه يُمْلي للعُصاةِ ويُنذِرُهم ؛لِيَتوبُوا ويُصلِحوا، وإلَّا فقدْ أقاموا على أنفُسِهم الحُجَّةَ المُوجِبةَ للعذابِ والهَلاكِ.
ومن المعلوم أيضا: أن اللَّه تعالى يمنح العباد عذراً، ما داموا جاهلين، إلى أن يرتفع جهلهم، فبالعلم وبالبيان والإنذار يرتفع عذرهم. ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» [الاسراء:15]، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يهلك امّة بعذاب إلّا بعد إبلاغ الرسالة إليهم والإنذار، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحقّ للعذاب. وقوله تعالى: «وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» [القصص:47]، أي إنّما أرسلناك قطعاً لعذرهم، وإلزام الحجّة عليهم.
الدعاء