خطبة حول قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)
مارس 23, 2019خطبة عن حديث (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ)
مارس 30, 2019الخطبة الأولى ( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه : ( عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ :« لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِى إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا »
إخوة الإسلام
لقد دعت آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلة الرحم، ورغبت فيها أعظم الترغيب ، والمراد بالرحم: الأقرباء في طرفي الرجل والمرأة من ناحية الأب والأم. ومعنى صلة الرحم: الإحسان إلى الأقارب في القول والفعل، ويدخل في ذلك زيارتهم، وتفقد أحوالهم، والسؤال عنهم، ومساعدة المحتاج منهم، والسعي في مصالحهم. قال الإمام النووي: “صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول ، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك”، وقد تكررت توجيهات نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم في شأن صلة الرحم، ورعاية ذلك،
وبين أيدينا اليوم -إن شاء الله- حديثٌ جليلٌ في تقرير معنى صلة الرحم وتأكيده، وبيان أن الإنسان الواصل ليس المُكافئ الذي إذا وصله أقاربه وصلهم، ولكن الواصل هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها، فتكون صلته لله ، لا مكافأة لعباد الله، ولا من أجل أن ينال بذلك مدحًا من الناس ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ) : أي : ليس الواصل حقيقة هو من إذا وصله أقاربه وصلهم مكافأة لهم، وإنما من يَصدق عليه مسمى الواصل ، هو الذي إذا قطعت رحمُهُ وصلها، وقد جاء في صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ « لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ » ، ولذلك فالناس ينقسمون في علاقاتهم مع أرحامهم إلى أقسام ثلاثة: واصلٌ، ومكافئٌ، وقاطعٌ، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : “لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع، فهم ثلاث درجات: واصل ،ومُكافئ ، وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يُتفضل عليه، والمُكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يُتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سُمِّي من جازاه مكافئا”.
ويوضح النبي صلى الله عليه وسلم الأمر ، فيقول: (وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا): أي إذا قاطعه غيره قابله بالصلة، فالذي يصل غيره مكافأة له على ما قدم من صلة مقابلة له بمثل ما فعل ليس بواصل حقيقة؛ لأن صلته نوع معاوضة ومبادلة لِمَن وَصَله.ولذا جاء في مسند أحمد : (عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّدَقَاتِ أَيُّهَا أَفْضَلُ قَالَ « عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحِ » ( والرَّحِمِ الكَاشِحِ : أي المُبغض أو المُعادي) ، وذلك لأن الإنفاق على القريب المحبوب مشُوب بالهوى, فأما على المُبغض أو المُعادي فهو الذي لا شوب فيه.
أيها المسلمون
ويمكن القول بأن الرحم التي ينبغي أن تُوصل هي على ثلاثة أنواع : الأول: رحم عامة: وهم من تربطك بهم علاقة الإسلام، وهؤلاء كما يقول الإمام القرطبي: “يجب مواصلتهم بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة لهم، وترك مضارتهم”. الثاني: رحم خاصة: وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، وتجب لهم من الحقوق ما للعامة، وزيادة كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وتعاهدهم في أوقات ضروراتهم. الثالث: رحم القريب غير المسلم: فأجاز الإسلام صلتهم بالبر والإحسان إليهم وليس ذلك بمُحرّم ولا منهي عنه؛ لأن مجرد فعل المعروف معهم وصلتهم لا يستلزم المودة والتحابب المنهي عنه، والدليل على ذلك قوله تعالى : {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)، قال العلماء: وحقيقة الصلة العطف والرحمة، فصلة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته،
أيها المسلمون
أما عن فضائل صلة الرحم فهي كثيرة ومتعددة ، وأذكر لكم منها : أولا : أن صلة الرحم تزيد الرزق ، وتبارك في العمر ، وشاهد ذلك ما جاء في صحيح البخاري ومسلم : (عن أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ » ، ثانيا : صلة الرحم تزيد المحبة والألفة بين الأهل ، ففي صحيح الأدب المفرد للبخاري : (عن جبير بن مطعم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر: “تعلموا أنسابكم، ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم، لأوزعه ذلك عن انتهاكه”. وعن ابن عباس؛ أنه قال: ” احفظوا أنسابكم، تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا بعد بالرحم إذا قربت، وإن كانت بعيدة، ولا قرب بها إذا بعدت، وإن كانت قريبة، وكل رحم أتيه يوم القيامة أمام صاحبها، تشهد له بصلة؛ إن كان وصلها، وعليه بقطيعة؛ إن كان قطعها”. ثالثا : صلة الرحم توجب صلة الله للواصلين ، ففي صحيح البخاري : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – زَوْجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « الرَّحِمُ شِجْنَةٌ ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ » ، رابعا : صلة الرحم من أسباب دخول الجنة ، ففي سنن ابن ماجة ،وحسنه الألباني : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأَرْحَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ » ، خامسا : صلة الرحم تقوي الروابط الأسرية وتزيد تماسكها وتزيد المحبة . سادسا : أن الصدقة على ذي الرحم ثنتان : صدقة ، وصلة .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقطيعة الرحم تعني: عدم الإحسان إلى الأقارب, وقيل: بل هي الإساءة إليهم. فإذا كان الإسلام قد رغب في صلة الرحم ، فقد حذر أيضا من قطيعة الرحم ، والإساءة إلى الأرحام، أو التهرب من أداء حقوقهم ، فمن فعل ذلك ففيه صفة من صفات الخاسرين الذين قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، بل إن ذلك جريمة وكبيرة من كبائر الذنوب. ومن المحزن أشد الحزن ،ما يراه المرء بعينه ،أو يسمعه بأذنيه ،من قطيعة لأقرب الأرحام الذين فُطر الإنسان على حبهم ، وبرهم ، وإكرامهم، حتى أصبح من الأمور المعتادة ، أن نسمع أن أحد الوالدين أضطر إلى اللجوء للمحكمة لينال حقه من النفقة، أو يطلب حمايته من ابنه، هذا الذي كان سبب وجوده ، ولا يفعل ذلك إلا إنسان قسا قلبه وقلت مروءته ، وانعدم إحساسه بالمسؤولية . فقطع الأرحام ذنب عظيم ، وكبير من الكبائر ، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالي من ذلك ، فقال الله تعالى : ” فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ” محمد 23 – 22 . وقاطع الرحم من الفاسقين الخاسرين: قال الله تعالى : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } البقرة: 26-27 . وروى مسلم في صحيحه : (أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ».
وعقوبة قطع الرحم معجلة في الدنيا قبل الآخرة ، ففي سنن الترمذي : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ » وقاطع الرحم لا يرفع له عمل ولا يقبله الله ، فقد روى أحمد : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِنَّ أَعْمَالَ بَنِى آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلاَ يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ ». وفي قطعها قطع للوصل مع الله: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ ». رواه مسلم ، وكان أبوبكر رضي الله عنه ينفق على ابن خالته مسطح لأنه كان فقيرا، ولما كان حديث الإفك عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تكلم عنها ابن خالته مع من تكلموا في حقها، فلما بلغ ذلك أبابكر قطع عليه النفقة ،وهذا في نظرنا أقل ما يمكن فعله، ولكن الله سبحانه وتعالى أنزل في ذلك قرآنا كريما ليسطر لنا مثلا عظيما في التعامل الاجتماعي بين الناس فنزل قوله تعالى :{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } النور22، قال أبوبكر رضي الله عنه: بلى!! أي بلى أحب أن يغفر الله لي ،وأن يعفو عني ،فرد أبوبكر رضي الله عنه النفقة التي كان ينفقها على ابن خالته ،رغم ما كان منه في حق ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه. فهيا أخي استعذ بالله من وساوس النفس والشيطان ، وصل رحمك ، وأبق على الود ، واحفظ العهد ، و أنثر المحبة والسعادة والسلام ، فصل من قطعك ، واعط من حرمك ، واعف عمن ظلمك: فكن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا … بالطوب يُرمى فيعطي أطيب الثمر
الدعاء