خطبة عن حديث (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)
سبتمبر 29, 2018خطبة عن (البيت السعيد)
سبتمبر 29, 2018الخطبة الأولى (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
رُوي في الصحيحين البخاري ومسلم :(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ إِذَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّىَ أَثَرَهُ وَإِذَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ تَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ وَانْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا ». قَالَ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « فَيَجْهَدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ يَسْتَطِيعُ » .
إخوة الإسلام
إن ضرب الأمثال أسلوب من أساليب التربية الناجحة، يحث المُرَبِّي والمعلِّم من خلاله النفوس والعقول على فعل الخير والبِر, ويدفعها إلى الخُلُق والفضيلة، ويحجزها عن الشر والمعصية، وضرب الأمثال أسلوب استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم وتربية أصحابه رضوان الله عليهم في أحداث ومواقف متعددة, لما يحمله من سرعة إيصال المعنى المراد، والذي من خلاله تغرس في النفس القيمة التربوية، ويستقر في العقل المعنى المطلوب ، وفي الحديث المتقدم مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للجواد المتصدق، والبخيل الشحيح ، حيث شبههما رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين ، أراد كل منهما أن يلبس درعًا يتحصن بها؛ إذ أن الدرع عندما يُلبس يقع على موضع الصدر ، إلى أن يُدخلَ لابسُها يديه في كمّيه ويرسل بقيتها إلى أسفل بدنه، فيستمر نزولا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المَثل المُنفق مَثلُ من لبس درعًا سابغة، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل صلى الله عليه وسلم البخيل مثل رجل يداه مربوطتان دون صدره، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينها وبين أن تمر إلى الأسفل على البدن، واجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، فكانت ثقلاً وشرًّا عليه من غير وقاية له وتحصين لبدنه.
والمقصود من هذا المثل : أن الكريم إذا همَّ بالنفقة، انشرح صدره واتسع، وطاوعته يداه، فامتدتا بالعطاء؛ لذا فإن صدقته ونفقته تكفر ذنوبه وتمحوها، وبناء عليه فإن المنفق يستره الله بنفقته، ويستر عوراته في الدنيا والآخرة، وأما البخيل فإن صدره يضيق وتنقبض يده عن الإنفاق، كمن لبس جُبّة إلى ثدييه، فيبقى مكشوفًا ، ظاهر العورة ،مفتضحًا في الدارين، حيث لا تطاوعه نفسه على البذل، فيبقى غير مكفر عنه الآثام، فيكون مُعرضًا للآفات ، والعذاب الأليم . فلما كان البخيل محبوسا عن الإحسان ،ممنوعا عن البر والخير ،كان جزاؤه من جنس عمله فهو ضيق الصدر ممنوع من الانشراح ، ضيق العطن، صغير النفس، قليل الفرح كثير الهم، والغم، والحزن، لا يكاد تقضى له حاجة ،ولا يعان على مطلوب، فهو كرجل عليه جبّة من حديد ،قد جمعت يداه إلى عنقه ،بحيث لا يتمكن من إخراجها ،ولا حركتها ، وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبّة ،لزمت كل حلقة من حلقها موضعها ، وهكذا البخيل كلّما أراد أن يتصدّق منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو. وأما المتصدِّق ،فكلما تصدق بصدقة ،انشرح لها قلبه ،وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه ،فكلما تصدق اتسع وانفسح ، وقوي فرحه، وعظم سروره ،ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها، لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها ، والمبادرة إليها ، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر : 9]. وقال العلماء :هناك فرق بين الشح والبخل : فالشح :هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه ، والاستقصاء في تحصيله ، وجشع النفس عليه ، وأما البخل : فهو منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه ، فهو شحيح قبل حصوله وبخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل ، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه، ووقى شره وذلك هو المفلح، وقال ابن قدامة المقدسي – رحمه الله -: ” اعلم أن السخاء والبخل درجات : فأرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه، وأشد درجات البخل: أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة إليه، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل، وقال القرطبي – رحمه الله – : ” وهذان المثالان للبخيل والمتصدق واقعان؛ لأن كل واحد منهما إنما يتصرف بما يجد من نفسه فمن غلب الإعطاء و البذل عليه طاعت نفسه، وطابت بالإنفاق، وتوسعت فيه، ومن غلب عليه البخل، كان كلما خطر بباله إخراج شيء مما بيده شحت نفسه بذلك، فانقبضت يده للضيق الذي يجده في صدره،
أيها المسلمون
ومن الحديث يظهر حرص البخيل على المال وعدم الرغبة في إنفاقه، وهذا أحد عوامل محقه وهلاكه؛ إذ يزداد حرص البخيل على المال، حتى يصل إلى درجة الشح المهلك، الذي يحمله على القتل واستحلال المحرمات، حيث إن في الامتناع عن الإنفاق هجرانًا وتقاطعًا، وهذا بدوره يؤدي إلى التشاجر والعداوة من سفك الدماء واستباحة المحارم من الفروج والأعراض والأموال وغيرها، وفي سنن أبي داود وغيره :(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : « إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخَلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا ». فالبخل خلق مذموم ، وقد قال الله تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } محمد38 ،وقال الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } آل عمران180 ، بينما الصدقة وإنفاق المال في وجوه الخير تزيد المال وتباركه، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَمْحَقُ اللَهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة:276)، وذلك لما في بذل المال من المحبة والتواصل والمواساة للإخوان. والصدقة يكون بها دفع البلاء وتحميه من شرور كثيرة بإذن الله -عز وجل-، وتدفع عنه السوء وقالة السوء، بمعنى أنه لا يُذكر إلا بالقول الطيب ،وتكون سابغة له فتعفو أثره،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن جميل ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الأمر: أن الخير لن ينمو إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يُزال عنه الدَّغَل -النباتات الطفيلة التي تنمو حول الزرع- فكذلك النفس والأعمال، لا تزكو حتى يزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكياً إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها، أي: يذلها ويحقّرها. ولذلك تجد البخيل يعمل على إخفاء نفسه وماله ومنزله، وأما الكريم وصاحب المعروف، فإنه يُشهر نفسه، حتى إن الجواد من العرب كان يَنزل الروابي ليشهر نفسه، واللئيم ينزل الأطراف والوديان، فالِبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعاً وبسطاً عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه الله وشرح صدره، والفجور والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق. ولو لم يكن في الصدقة إلا فائدة انشراح الصدر وحدها لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (التغابن:16).
أيها المسلمون
وأما عن مدلولات هذا المثل، ومقاصد هذا الحديث ، فمنها: أولا : أن الصدقة سبب مباشر من أسباب السرور والطمأنينة، ذلك أن الله تعالى يُخلفُ نفقة المنفق فيفرح بذلك، كما يفرح عند فرح الآخرين، الذين لا يفتأون يدعون له بالخير ، ثانيا : أن البخل سبب مباشر من أسباب الضيق والقلق، وقد يلمس ذلك في تعامل البخيل مع أهله وولده، إذ يضيِّق عليهم فيختلفون معه، وتحدث المشاكل فيحصل الضيق والضجر ، بل غير مستبعد أن يعاني البخيل نفسه مع نفسه؛ إذ يعمل على حرمان نفسه بدافع المحافظة على المال، فيعيش حياة شقية ضيقة، ولا يوسع على نفسه، فيكون بخله سبب ضيقه وتعبه. ثالثا : أن الجزاء من جنس العمل؛ إذ إن البخيل تضيق عليه جبته جزاء بخله، والمتصدق تتسع عليه جبته جزاء إنفاقه، وما أجمل هذا التشبيه وأصدقه على حال البخيل وما يعاني منه، حيث إنه ضيِّق الصدر، محروم من الانشراح، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا تكاد تُقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب، وكذلك درع المتصدق فإنه كان واسعاً مريحاً؛ إذ الصدقة فيها توسعة على الآخرين، بينما كان درع البخيل ضيَّقًا، إذ ضيَّق على نفسه وعلى الآخرين ببخله وامتناعه عن الإحسان والبر والخير. رابعا : أن أحق الناس بالتوسعة والنفقة هم الأهل، حيث بيّن الحديث أن الدرع أقرب ما تكون إلى الجسد، وأقرب الناس للشخص أهله وذووه. قال الإمام الماوردي رحمه الله: “قد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة -وإن كان ذريعة إلى كل مذمة- أربعة أخلاق ناهيك بها ذمًّا، وهي: الحرص، والشره، وسوء الظن، ومنع الحقوق، وإذ آل البخيل إلى ما وصفنا من هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة، لم يبق معه خير موجود ولا صلاح مأمول”. خامسا : في الحديث دلالة على مدح المتصدق وذم البخيل وهذا يفهم من المثال الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم سادسا : في الحديث دلالة على حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ،وذلك بتقريبه للمعنى بضرب المثال قولاً وفعلاً ، وكما في آخر الحديث وضع إصبعه في جيبه، وهكذا ينبغي لمن يعلّم الناس الخير ، أن ينوِّع في أسلوبه ، لأن هذا أدعى لفهم المخاطب.
الدعاء