خطبة عن (نعم الله لا تُعد ولا تُحصى)
نوفمبر 13, 2023خطبة عن (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
نوفمبر 13, 2023الخطبة الأولى (هَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين البخاري ومسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَهَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً»، وفي رواية: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ»
إخوة الإسلام
خلق الله سبحانه وتعالى المخلوقات، وأتقن صنعها، وأبدع صورها، قال تعالى: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 88)، ومن تأمل صنع الله العجيب، زاد إيمانه، واطمئن قلبه، وخشعت جوارحه، وسالت دمعته، ورغبت نفسه عن الدنيا، وطلبت الآخرة، ومن أعظم مخلوقات الله تعالى الحشرات الصغيرة، كالنمل والبعوض الذي ذكره الله في كتابه، وقد بين الله تعالى كيف تكلمت نملة، ونصحت وحذرت قومها، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل: 19)،
والإسلامُ جاء بالرَّحمةِ، وتَعدَّدتْ رحمته لِجَميعِ المَخلوقاتِ، الانسان والحيوان والحشرات، ومن صور الرحمة: أنه قد نَهى عن القَتلِ عَبَثًا، أو مِن غَيرِ مَصلَحةٍ، ففي صحيح مسلم: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا). وفي الوَقتِ ذاتِه حافَظَ الاسلام على مَصالِحِ النَّاسِ مِنَ الضَّرَرِ والأذى، وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ ضَرَرَ وَلاَ إِضِرَارَ وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ خَشَبَةً فِي حَائِطِ جَارِهِ وَالطَّرِيقُ الْمِيتَاءُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ ».
وفي هذا الحديث النبوي الكريم الذي تصدرت به هذه الخطبة: عاتَبَ اللهُ تعالَى نَبيًّا مِن الأنبياءِ لَمَّا أحرَقَ قَريةَ النَّملِ، بسَببِ أنَّ نَملةً قَرَصَتْه، وفي هذا عِتابٌ على تَركِ الأفضلِ؛ فإنَّه لوِ اقتَصَرَ على مُعاقَبةِ النَّملةِ التي قَرَصتْه وَحدَها، لَمَا حَدَثَت المُعاتَبةُ، ولكِنَّه عُوتِبَ لَمَّا تَجاوَزَ ذلك إلى التَّجبُّرِ بحَرقِ قَريةِ النَّملِ كُلِّها. فالشريعة الاسلامية تدعو إلى إعمار الكون، وتوجيه الطاقات البشريّة نحو البناء لا الهدم، والتشييد لا التخريب، وعلى العكس فإن الفساد والإفساد في الأرض مهما كان نوعه، أو حجمه، فإنه سلوك مرفوض، يبغضه الله تعالى، وتأباه الفطر السليمة، كما جاء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة : 205). وقال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) الاعراف (56)،
أيها المسلمون
وفي هذا الحديث النبوي الذي تصدرت به هذه الخطبة اشراقات ولمحات تربوية، ترقى بسلوك المؤمن إلى أعلى، وتفجّر بين جنباته معاني الرحمة والرفق والحنان، ففي سنن البيهقي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»،
فمن اللمحات التربوية التي تحملها قصة هذا الحديث: الإحساس بالمسؤوليّة، واستشعار المراقبة الذاتيّة؛ فمن تربّى على التحرّز من قتل نملة واحدة بغير حقّ، لا يمكنه أن يفكّر مجرّد التفكير في أن يسفك دماً حراماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو يعيث في الأرض فساداً.
ومن اللمحات التربوية في هذا الحديث: أن يتعامل المسلم مع الموقف بروح الصبر والمسامحة ،بدلاُ من الانتقام والإهلاك، قال الله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (22) النور، وقال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (40) الشورى، وفي سنن الترمذي: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»
ومن اللمحات التربوية في هذا الحديث: ألا يعاقب البريء بذنب المخطئ، قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [الإسراء:15]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]. فقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}: فهذا مبدأ قرآني، يغيب عن كثير من الناس اليوم، فيعتمدون خطاب الجمع والتعميم، ويختارون ثقافة السلة الواحدة، عملا بمثل خاطئ: (الحسنة تخص والسيئة تعم)، وهذا المبدأ حذر منه نبي الله يوسف عليه السلام، حين عرض عليه إخوته أن يأخذ أحدهم بدلا من أخيهم بنيامين: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} يوسف (79)، فلتكن المحاسبة والمعاقبة من نصيب المخطئ، ولتكن العقوبة للنملة الشاردة، لا لقريتها بأسرها، حقا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [الإسراء:15] .
ومن اللمحات التربوية في هذا الحديث: أن الكون بجميع مخلوقاته يسبح، فقد دان بالعبوديّة لله وحده، وأسلم له طوعاً واختياراً، واعترف بقدرته وقهره، وكماله وسلطانه، (أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ)، أفلا يكون ابن آدم الذي ميّزه الله بالعقل، أولى بالعبودية، وأحرى بالتسبيح والتنزيه؟
ومن اللمحات التربوية في هذا الحديث أيضا: التحذير من الغضب : فالغضب «ثورانٌ في النفس يحملها على الرغبة في البطش والانتقام»، وفي سنن الترمذي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَلاَ وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأَرْضِ» ،وفي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ ».
ومن اللمحات التربوية: العدل: قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ} المائدة: 8. والنبي هنا في هذا الحديث المتقدم قد أحرق قرية النمل كلها، وكان من العدل أن يعاقب نملة واحدة، إذا كان لابد من العقاب.
ومن اللمحات التربوية: أن هناك أمما أمثالكم تسبح الله: فقد قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } الأنعام: 38. وقال الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} الإسراء: 44
ومن اللمحات التربوية: أنه قد يجر الويلات على الأمة أفعال بعض المتهورين، كما فعلت النملة التي قرصت النبي، فجرت عل قريتها الدمار، بسبب تهورها، وتصرفها الخاطئ .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (هَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن اللمحات التربوية الاسلامية: أن التحريق بالنار للأحياء غير جائز، ففي سنن أبي داود: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ قَالَ فَخَرَجْتُ فِيهَا وَقَالَ « إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاحْرِقُوهُ بِالنَّارِ ». فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاقْتُلُوهُ وَلاَ تُحْرِقُوهُ فَإِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ».
ويبدو من السياق أن التعذيب بالنار كان جائزاً في الأمم السابقة، فإن العتاب لم يقع في أصل القتل أو الإحراق، ولكن في الزيادة على النملة الواحدة، ثم استقرّ الأمر في شريعة الإسلام على حرمة التعذيب بالنار، كما ورد النهي عن قتل النمل بخصوصه ففي سنن ابن ماجه وغيره: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ). في حين جاء الأمر بقتل جملة من الحيوانات المؤذية بطبعها لكثرة ضررها وفسادها، ففي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهَا فَوَاسِقُ تُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
وَالْعَقْرَبُ وَالْفَارَةُ ». الدعاء