خطبة عن الركون إلى الدنيا ، وقوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا )
أكتوبر 31, 2020خطبة عن الهداية ، وقوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ )
أكتوبر 31, 2020الخطبة الأولى ( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه بسند حسنه 🙁 عَنْ أَبِى أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : ( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »، وروى ابن ماجة :(عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ : ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَبَيْنَ الأَخِ وَبَيْنَ أَخِيهِ).
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الأدب النبوي الكريم ، والذي يحذر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفريق بين الوالدة وولدها ، والأخ وأخيه ، وكذا حرمان أحد الوالدين من رؤية أولاده ، لذلك فقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بالحرمان من أحبته في الدار الآخرة ، كما أنذر باللعنة من فعل ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الروايتين السابقتين : (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وأيضا : (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَبَيْنَ الأَخِ وَبَيْنَ أَخِيهِ )
ومن المعلوم أن حضانة الأطفال الصغار إنما يراعى فيها مصلحة الطفل ، وليس رغبة الأبوين ، فمن ترجح أن مصلحة الطفل عنده أكثر من الآخر ،فهو أحق بها ، سواء كان أبًا أو أمًا ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في مجموع الفتاوى : ( وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ لَيْسَ لَهُ نَصٌّ عَامٌّ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا وَلَا تَخْيِيرِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا ، وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُطْلَقًا ؛ بَلْ مَعَ الْعُدْوَانِ وَالتَّفْرِيطِ لَا يُقَدَّمُ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ عَلَى الْبَرِّ الْعَادِلِ الْمُحْسِنِ الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ ) ،أما فيما يتعلق بنفقة الصغير الذي لا مال له ، فإنها تجب شرعًا على الأب، إن كان موسرا ، وتُلزمه المحكمة بدفعها ، فإن كان الأب معسرا ، وقادرا على الكسب ،أجبر على التكسب من أجل الإنفاق على ابنه ، فإن أبى فإنه يعاقب .
ومن المعلوم أيضا أن الأمّ أضْعَفُ الوالدَيْن، وأكثرهما رحمةً بالولَد؛ لمَا جبَلها الله – تعالى – عليه مِن العَطْف والرِّقة، والرحمة والحنان؛ ولأنَّ ولدَها مضغةٌ منها، خرَج من بطنِها، ورَضع لَبَنها، ونام في حجْرِها، ووجَد حنانها ودِفْأَها، ولا يَفهم الولدَ وطباعَه حقَّ الفهم إلا أمُّه، ولو كانت أُميَّةً لا تقرأ ولا تكتب، ويَكفي دليلاً على رحمة الأم بولدها أنَّ الرضيع إذا جاعَ دَرَّ لبنُ أمِّه ولو كان بعيدًا عنها! ،فتعلُّقَ الأمِّ بولدِها، ورحمتَها به، وحنوَّها عليه، والسعيَ في رعاية مصلحته – فِطرةٌ فطَر الله – تعالى – عليها المخلوقاتِ من بشَرٍ وحيوان، ووحْش وطير وحشرات؛ ليُحفظَ النَّسْل، ويَبقى الخَلْق إلى ما شاء الله – تعالى – ، إنَّها حِكمة الحكيم العليم، ورحمةٌ من رحماتِ أرحمِ الراحمين . وأشدُّ شيءٍ على الأمِّ أن يُحال بينها وبين ولدها ،بشَرًا كانتْ أم غيرَ بشَر، فالناقة لا تَعقِل، لكنَّها تبكي وترزُم إذا حِيل بينها وبين فَصِيلها، فإذا ذُبِح أمامها ولِهَتْ عليه، فهزُلتْ ولربَّما ماتتْ مِن شدَّة وجْدِها عليه. والطير أيضا تنتفض وتفرِش بجناحيها ،إذا فقدَتْ صغيرَها ، كما ورَد أنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – نزَل منزلاً فأخَذَ رجلٌ بيْضَ حُمَّرَة فجاءتْ ترفُّ على رأسِ رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: (أيُّكم فجَّع هذه بيضتَها)، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، أنا أخذتُ بيضتها، فقال النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (اردُدْه رحمةً لها)؛ رواه البخاريُّ في الأدب المفرد. وفي إثباتِ رحمة الله – تعالى – ضرَب النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – الأمثالَ عليها برحمة الأمِّ لولدها؛ ممَّا يدلُّ على أنَّه لا أرحمَ في الخَلْق من قلْب الأم، قال عُمَرُ بن الخَطَّابِ – رضي الله عنه -: “قُدِمَ على رسولِ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بِسَبْيٍ، فإذا امرأةٌ مِن السَّبْيِ تبتغي، إذا وَجَدَتْ صَبِيًّا في السَّبْيِ أخذَتْهُ فألصقَتْه بِبَطْنِها وأرضَعَتْه، فقال لنا رسولُ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (أترَوْن هذه المرأةَ طارِحَةً ولدَها في النارِ؟) قُلْنا: لا واللهِ، وهي تَقْدِرُ على ألاَّ تَطْرَحَه، فقال رسولُ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (للهُ أرحَمُ بعبادِه من هذه بِوَلَدِها) ؛ رواه البخاري ومسلم .وفي حديثِ أبي هُرَيرة – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: (إنَّ للهِ مائةَ رحمَةٍ، أَنْزَلَ منها رَحْمَةً واحدَةً بين الجِنِّ وَالإِنسِ والبَهائِمِ والهَوامِّ فبِها يتَعاطَفونَ وبِها يَتَراحَمونَ، وبها تَعْطِفُ الوَحشُ على ولَدِها)، وفي رواية: (حتى تَرْفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن ولَدِها؛ خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَه)؛ رواه البخاري ومسلم
أيها المسلمون
والشَّريعة الإسلامية جاءتْ بما يوائِم الفِطرة، فأَغلقتْ كلَّ طريق يُحال فيه بين الولد وأمِّه؛ رحمةً بهما، فالولد يحتاج إلى حضانةِ أمِّه، والأمُّ يتمزَّق قلبُها إنْ حِيل بينها وبين ولدِها، فإذا قدَّر الله – تعالى – فِراقًا بين الزوجين، كانتِ الأمُّ أحقَّ بحضانة الأطفال، وإنما كانتِ الحضانة للأمِّ لأنَّها أقربُ وأشفق، ولا يُشاركها في قُرْبها إلا الأب، وليس له شفقتُها، وهو لا يلي الحضانة بنفسه. وهذا حقٌّ لها ما لم تتزوَّج؛ لأنَّها إذا تزوجت شُغِلت بالزوج عن حضانته، وأَمْرُها بيد زوجِها لا بيدها، وقد يُؤذي زوجُها ولدَها ولا تستطيع منعَه، والشَّرْع الحكيم كما راعَى مصلحةَ الجمْع بين الأم ووليدها، راعى كذلك مصلحةَ الطفل إذا تزوَّجتْ أمُّه وشُغِلت عنه ، والأصل في ذلك: حديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ امرَأةً قالت: يا رَسولَ الله، إنَّ ابْنِي هذا كان بَطْنِي له وِعاءً، وثَدْيِي له سِقاءً، وحِجْرِي له حِواءً، وإنَّ أباهُ طَلَّقَنِي وأرادَ أَنْ يَنْتَزِعَه منِّي، فقال لها رسولُ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَنْكِحِي)؛ رواه أبو داود. ولمَّا خاصَم عُمَرُ – رضي الله عنه – امرأتَه أمَّ عاصم في ابنِه منها إلى أبي بكر – رضي الله عنه – قضَى أبو بكر بالولدِ لأمِّه، وقال: “رِيحها وشَمُّها ولُطفُها خيرٌ له منك”. قال ابنُ عبد البر – رحمه الله تعالى -: “لا أعلم خِلافًا بين السلف من العلماءِ في المرأةِ المطلَّقة إذا لم تتزوَّجْ أنها أحقُّ بولدها مِن أبيه، ما دام طفلاً صغيرًا لا يميِّز شيئًا”؛ وقال ابنُ قُدامةَ – رحمه الله تعالى -: “أجْمَع أهلُ العِلم على أنَّ التفريقَ بين الأم وولدِها الطفلِ غيرُ جائز”؛ بل إنَّ العلماء جعَلوا التفريق بين الأم وولدها مِن المضارَّةِ في البيع، كما قال ابنُ رجب – رحمه الله تعالى -: “ومِن أنواع الضُّرِّ في البيوع التفريقُ بين الوالدة وولدها في البيع، فإنْ كان صغيرًا حرُم بالاتِّفاق”؛
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إنَّ أعظمَ جريمةٍ تُرتكب في حقِّ الأولاد وأمِّهم بعدَ ترمُّلِها، أو طلاقِها – أن يُتَّخذوا سلاحًا لإضعافها ،والانتقام منها، فيَنتزع الأبُ أو ذووه أولادَها منها بالقوَّة، ويحبسهم عن أمِّهم؛ لتصفيةِ حِساباتٍ سابِقة، أو لإثباتِ أنَّه أقوى، أو لغيرِ ذلك، فيُحرق قلْبَ أطفاله على أمِّهم، لإطفاءِ نِيران قلْبه المشتعِل بالضغائنِ والأحقاد، فالشريعةَ حرَّمتْ منْعَ الأمِّ مِن أولادها، وحبْسَهم عنها لأيِّ سبب كان، فإنْ كانوا في فترةِ الحضانة فهي أولى بهم مِن أبيهم إلاَّ أن تتزوَّج، فإنْ تزوَّجت وانتَقلتْ حضانتُهم لغيرها، لم يُمنعوا منها، ولا يَحِلُّ الانتقام منها؛ لأنَّها تزوَّجت، بل يُمكَّنون مِن زيارتها والجلوسِ معها بيْن حينٍ وآخَر، ويجب على الزَّوْج أنْ يُعينهم على بِرِّ أمِّهم ولو كانتْ طليقتَه، ولا يُؤلِّبهم عليها، أو يُشوِّه صورتَها في أذهانهم، فإنَّ ذلك كلَّه يُنافي الفراقَ بإحسان، ويعود بالسَّلبِ على أولاده، فإمَّا أن يكرهوه لكثرةِ كلامه في أمِّهم، وإمَّا أن يكرهوا أمَّهم، وفي كِلتا الحالتين لن يكونَ ذلك خيرًا له ولا لهم. وفي المقابل فقد قرر الفقهاء أن من حق الأب رؤية ابنه حال كونه في حضانة الأم ، وأنه لا يمنع من زيارته ، فعلى الآباء والأمَّهات أنْ يَسْعَوا بعدَ طلاقهم فيما يعود بالصلاحِ على أولادهم، وعلى الآباءِ أن يَعْلَموا أنهم حين يستخدمون أولادَهم سِلاحًا للانتقام مِن طليقاتهم فإنَّهم يَنتقِمون مِن أولادهم، ويعرضون أنفسهم للعقاب في الدنيا والآخرة .وحقا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وأيضا : (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَبَيْنَ الأَخِ وَبَيْنَ أَخِيهِ )
الدعاء