خطبة عن الرزق وأسبابه (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)
يناير 4, 2020خطبة عن (العطاء)
يناير 4, 2020الخطبة الأولى ( إِنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِىَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رَبَاعِيًا. فَقَالَ « أَعْطِهِ إِيَّاهُ إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً ». وفي رواية : « فَإِنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً ». وفي أخرى عند الترمذي : (خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً ».
إخوة الإسلام
إن أعمال الخير التي يصير بها المسلم من خيار عباد الله كثيرة، فمن جمعها فقد جمع الخير، ومن تحلى ببعضها فقد جمع من الخير بقدر ما تحلى به. والمتتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنها قد زخرت بذكر خيار عباد الله بأعمال صالحة يعملونها، وبذلك نالوا هذا الوسام الكريم، ووصلوا بها إلى هذا الشرف العظيم. وما ذكره خير البشرية صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة التي حاز بها بعض الناس قصب السبق لإحراز الخيرية يتفرق في ميادين حياتية كثيرة؛ ومما لا يخفى أن الإنسان لا يستطيع أن يستقلّ بنفسه في الحياة ويستغني عن الآخرين تماما مهما كانت لديه من مؤهلات، فهو بحاجة إلى من يعينه على قضاء مصالحه وتحقيق منافعه، والإسلام حريص على أن يتكافل الناس ويتعاونوا على البرّ والتقوى وبذل المعروف وإسداء الخير لأهله في وقته ممّا يحقّق لهم المصالح والمنافع الدنيوية والأخروية، وقد يمنع شيئا لمصلحة راجحة ثم يبيحه لمصلحة أرجح ، ومن ذلك ( القرض ) ، فإقراض المحتاجين أمر رغب فيه الإسلام ، وحث عليه ، وبين فضله ، وعظيم أجره ، ففي سنن ابن ماجة : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ. فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ. قَالَ لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ ».
ومن شروط الاقراض وأحكامه أنه يحرم على المقرض أن يأخذ زيادة عن قرضه حال السداد ، كما يحرم على المقترض أن يُهدِي هدية للمقرِض، كما يحرم على المقرض أن يقبل هدية من المقترض؛ لأنه يؤول إلى السلف بزيادة، وذلك سلف جر نفعا وهو حرام، وقال العلماء : هذه الحرمة مقيدة بقيدين : الأول : إن لم يتقدم قبل القرض مثلها؛ أي أن المقرض والمقترض كانا يتبادلان الهدايا بينهما قبل القرض فلا يحرم التهادي بعد القرض؛ لضعف تهمة السلف بمنفعة حينئذ. ولأن الأصل بقاء ما كان على ما كان. ، والثاني : أن لا يحدث موجب للهدية من المدين لرب الدين كصهارة أو جوار وكان الإهداء لذلك لا للدَّين، كما يحرم التهادي بين رب القراض وعامل القراض إن لم يتقدم مثلها أو يحدث موجب لها؛ لتهمة قصد العامل بالهدية استدامة العمل في مال القراض، وتحرم الهدية أيضا لذي جاه إن لم يتقدم مثلها أو يحدث موجب لها، وتحرم الهدية أيضا للقاضي إن لم يتقدم مثلها أو يحدث موجب لها، كل ذلك لدفع تهمة الانتفاع بالقرض. وعلى هذا: فمن أقرض إنساناً شيئاً ،ففي مدة القرض لا يحق له أن يقبل منه شيئاً، كما قيل: ولا عوداً من أراك، إلا إذا كان العهد بينهما قبل القرض تبادل الهدايا، يقبلها ويعوضه عنها، سواء قبل أن يسدد القرض في مناسبات تأتي ،أو بعد أن يسدد، وإذا انتهى القرض وسدد المدين دينه، ثم جاء المدين في مناسبة وقدم لمن كان أقرضه هدية، يقبلها أم لا؟ هناك من يقول: إنها من توابع القرض فلا يقبل، وهذا هو التورع. وهناك من يقول: إن القرض قد انتهى، والدين سدد، وانقطعت العلاقة، وهذا جاء متبرعاً محسناً، فلا ينبغي أن يردها.
أيها المسلمون
وفي هذا الحديث الذي تصدرت به هذه الخطبة فإن رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم “اسْتسْلَفَ”، أي: اسْتقْرَضَ مِن رجلٍ “بَكْرًا” أي: فَتًى مِنَ الإبلِ ،بِمنزلِةِ الغُلامِ مِنَ الإنسانِ، فَجاءتْه صلَّى الله عليه وسلَّم قِطعةُ إبلٍ مِنْ إبلِ الصَّدقةِ، فَأمرَ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا رافعٍ (رضِي اللهُ عنه) أنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَه، أي: يُؤدِّي لِلرَّجلِ ما اسْتقرَضَه النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم منه، فقالَ أبو رافعٍ: إِنَّه لم يَجدْ فيها إلَّا جملًا “خِيارًا”، أي: مُختارًا، “رَباعِيًّا” وهو مِنَ الإبلِ ما أتى عليه سِتُّ سِنينَ ودَخلَ في السَّابعةِ حين طَلعَتْ رَباعِيَتُه، أي: أنَّ هذا الجمَلَ أفضلُ مِمَّا اسْتقرضَه النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن هذا الرَّجُلِ، فقالَ صلَّى الله عليه وسلَّم: أَعطِه إيَّاه؛ إنَّ خِيارَ النَّاسِ أحسنُهم قَضاءً، أي: إنَّ أفْضلَ النَّاسِ وأجودَهم مَن إذا اسْتقْرَضَ رَدَّ ما عليه بِأفضَلَ مِمَّا أخَذَه دُونَ اشتراطِ الْمُقرِضِ؛ حتَّى لا يكونَ رِبًا . ففي هذا الحديثِ: بيانُ مكارمِ أخلاقِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وَإحسانِه في مُعاملاتِه، وأنَّ مِنْ هدْيِه صلَّى الله عليه وسلَّم إذا استْقرضَ ردَّ ما عليه بِأفضلَ مِمَّا أَخذَه. ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (إنَّ خِيارَ النَّاسِ أحسنُهم قَضاءً) ، يعني : أحسنهم وفاء وأداءً لما عليه من حق، ومعنى هذا أن يحترم المدين كلمته، ويَفِي بوعده، ويؤدي ما عليه من حَقٍّ أو دَيْنٍ، فلا يُماطل في أداء الحقوق متى كان قادراً على ذلك، كما جاء في قوله- صلى الله عليه وسلم: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْم) (أخرجه البخاري)، وحسن القضاء والوفاء من سمات النفوس الخيِّرة الكريمة، وهو دليل واضح على التزام الصدق في العهود والوعود والرغبة في أداء الحقوق ، وكلما حرص المقترض على أداء الدين كلما ارتقى عند الله عز وجل، ودخل في باب الأفضلية، وباب الخيرية. وإنما كان ذلك لأن الذي يستقرض ويؤدي في الوقت المحدد يشجع على فعل الخيرات، أما الذي يأخذ ولا يعطي يمنع الخير بين الناس، فإذا رأيت الناس يتهربون من القرض الحسن، فلإساءة الذين يستقرضون، ولا يؤدون. والأحسن قضاء لا يعني الزيادة في الوزن أو الكيل أو العدد بل بالوزن نفسه وبالكيل نفسه وبالعدد نفسه لكن يجوز أن يكون من نوع أفضل إذا أراد المقترض أن يسدد بالأفضل دون اشتراط ذلك من المقرض لأن الرسول صلى الله عليه وسـلم قضى بالأجود والأحسن دون شرط المقرض.
أيها المسلمون
لقد بين الإسلام قيمة الوفاء بالدين ، وحث المستدين على الإحسان في توفية الدين، وذلك بأن يمشي إلى الدائن ، ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه، ومهما قدر على أداء الدين ، فليبادر إليه ولو قبل وقته، وليسلم أجود وأحسن مما أخذ ، سواء في الصفة أو العدد ، طالما أن الزيادة ليست مشروطة في عقد القرض، وليس هذا من باب قرض جر منفعة، وإنما هو من السنة ومكارم الأخلاق، ومهما كلمه صاحب الحق بكلام خشن ،فليحتمله ، وليقابله باللطف، وليشكره على ما صنع فيه من معروف. كما حث الاسلام المدين على أداء الدين وترغيبه في أن ينوي الوفاء، ففي صحيح البخاري : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ » ، كما حذر الاسلام المدين الذين لا يبالي بعاقبة أمره ، ولا يهتم بطريقة الخلاص من دينه ، ففي سنن ابن ماجة : يروي (صُهَيْبُ الْخَيْرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « أَيُّمَا رَجُلٍ يَدَيَّنُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لاَ يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ لَقِىَ اللَّهَ سَارِقًا ». ، وأيضا في تحذير المتمكن القادر على السداد من المماطلة والتقصير في الأداء ، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ ، وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِىٍّ فَلْيَتَّبِعْ » ، وفي شكر الدائن على القرض الذي أقرضه ، والمعروف الذي صنعه وقدمه ، فقد روى ابن ماجة والامام احمد : (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْلَفَ مِنْهُ حِينَ غَزَا حُنَيْنًا ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهَا إِيَّاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
واعلموا أن قضاء الدين في حقيقة الأمر يحصل للعبد بتوفيق الله تعالى، وما استجلب التوفيق بمثل المبالغة في الدعاء وطلب المعونة والاستكثار من إظهار مسيس الحاجة والافتقار إلى رب العالمين ، ففي سنن أبي داود : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ : « يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ ». قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ ». قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ ».قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّى وَقَضَى عَنِّى دَيْنِي. ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداه الله عنك؟ قل يا معاذ: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك». رواه الطبراني في الصغير.
أيها المسلمون
فإن من أجمل ما في الدنيا أن تألف وتؤلف، وتحب وتُحب، فإذا ألمت بك شدة وجدت القاصي والداني والقريب والغريب حولك .. حبا لا تملقا، ومشاركة لا عطفا، ومودة لا شفقة، وهذا المنهج هو ما حرص على ترسيخه الإسلام ، ليجعل من المجتمع نسيجا فريدا رائعا، فلما كان المعنى الجامع بين المسلمين الإسلام، فقد اكتسبوا به أخوة أصيلة ، ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض، وكلما ازدادت هذه المخالطة وصفا زادت الحقوق، وروى الإمام أحمد في مسنده : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ ».
الدعاء