خطبة عن (عوائق الصبر)
مايو 13, 2024خطبة عن (الرحمة من أخلاق المؤمنين)
مايو 16, 2024الخطبة الأولى (حقوق الجوار)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (36) النساء، وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ».
إخوة الإسلام
لقد عظم الاسلام حق المسلم على المسلم، وحق الأرحام على أرحامهم، وحق الجار على جاره، وبين الاسلام أن القيام بهذه الحقوق هي من أهم أسباب سعادة الفرد والمجتمع، فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه، وأهله، وأرحامه، وجيرانه، وأقرب الناس إلى الإنسان، وأكثرهم ملابسة له، ومعرفة بأحواله -بعد أهله وقرابته- هم جيرانه، بل لربما كان الجار في حالات كثيرة أقرب إليهم، وأكثر إعانة لهم من القرابة والأصهار، فإن أهل البيت حين يفاجؤون بمشكلة، أو تحل بهم نازلة، ويحتاجون فيها إلى إغاثة عاجلة، فإنهم يهرعون مباشرة إلى جارهم، بحكم قربه منهم، وملاصقة داره لدارهم، ومن هنا يتبين لنا شدة حاجة الجار إلى جاره، وقوة تأثيره فيه، وعظم حقه عليه، وأن القيام بحقه من أوجب الواجبات، ومن أكبر أسباب التكافل والتعاون في هذه الحياة، لتذليل عقباتها، وتخفيف مصاعبها، لذا سوف يكون حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن: (حقوق الجوار)،
فالجار يطالع الإنسان صفحة وجهه في كل يوم، ويلاقيه أكثر من أهله وذَوِيه، وهذا الجار له من الحقوق الكثيرة، والتي عرَّفها لنا الإسلام، وجهِلها كثير من الناس، حتى وصل الأمر من بعض الجيران أنهم لا يسترون عورة، ولا يُقِيلون عثرة، ولا يغفرون ذنبًا،
وقد بينت الآية السابقة أنواع الجوار: الجار القريب: وهو الجار المسلم الذي تجمعك به علاقة قرابة، وله ثلاثة حقوق، فله حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإسلام، والجار الجُنُب، أي: البعيد المسلم غير القريب، وهو جار له حقان، فله حق الإسلام، وحق الجوار، والجار الكافر القريب: فله حق واحد وهو: حق الجوار والقرابة، والجار الكافر غير القريب: وهذا له حق واحد وهو: حق الجوار فحسب، وفي قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:٣٦]، قال بعض المفسرين: هو كل من جاورك: (في صناعة أو عمل، أو دراسة، أو سفر، أو في مزرعة أو متجر، وهو الذي يجلس بجوارك في مقعد الطائرة -مثلاً- أو السيارة، والمرأة جار للزوج، والزوج جار لها؛ وهكذا، وذلك لأجل الاشتراك الحاصل، والقرب الشديد الذي يكون بينهما، وروى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: {الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ جَارٌ مُسْلِمٌ لَهُ رَحِمٌ لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَالرَّحِمِ وَالْجِوَارِ}، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ ذَبَحَ شَاةً فَأَهْدَى مِنْهَا لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ)،
أيها المسلمون
فللجار حقوق لا بدَّ أن يَعِيَها ويعلمها كل مسلم، ومنها: الإحسان إلى الجار بالقول والفعل: فالإحسان إلى الجار خلق كريم، يُهيِّئ القلوب إلى الخير، وفي معجم الطبراني: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة إرض بما قسم الله تكن غنيا، وكن ورعا تكن عبدا لله، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، واحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما)، وفي سنن الترمذي: «وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا)، وقد جعل الإسلام الإحسان إلى الجار من علامات أهل الإيمان، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)، وفي صحيح الجامع للألباني: (أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إن أحببتُم أن يُحبكم الله ورسوله، فأدوا إذا ائتمنتُم، واصدقوا إذا حدَّثتم، وأحسنوا جوار مَن جاوركم)، وبين صلى الله عليه وسلم أن حسن الجوار يزيد في العمر، ويعمر الديار: فقد أخرج الإمام أحمد – بسند صحيح: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا «إِنَّهُ مَنْ أُعْطِىَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِىَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ»،
ومن صور الإحسان إلى الجار: صيانة عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسد خَلته، وغض البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه ويُسيء إليه، فليحسن كل منا إلى جيرانه؛ حتى يَشهدوا له بالخير عند موته، فيغفر الله له ذنبه؛ فقد أخرج الإمام أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاَثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ»، وفي رواية له: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ إِلاَّ قَالَ قَدْ قَبِلْتُ عِلْمَكُمْ فِيهِ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»،
ومن حقوق الجوار: حل مشكلاته وقضاء مصالحه: فلا بد للجار أن يتعايَش مع جاره، فيسعى في حل مشكلاته، وقضاء مصالحه؛ وذلك من باب: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77]. وقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة:2]. فينبغي للجار أن يكون في حاجة أخيه؛ ليكون الله في حاجته؛ ففي صحيح مسلم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ومن حقوق الجوار: عرض العقار أو الأرض على الجار قبل غيره عند إرادة البيع: ففي سنن ابن ماجه: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى جَارِهِ». فهذا الأمر أطيب لخاطره ولقلبه، والتفريط في هذا الأمر يفتح باب المشاحنات.
ومن حقوق الجوار: إذا استقرضك فأقْرِضه: فإذا مرت بالجار ضائقة مالية، وأتى إليك ليَستقرض منك مالاً، فعليك أن تعطيه، إن كان معك هذا المال، وهذا من باب التعاون بين المسلمين؛ وإذا اقترض منك مالاً، وحان وقت السداد، ولم يقدر على تسديد دينه، فأنظِره إلى حين المقدرة على السداد؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280]. وفي المعجم الكبير للطبراني: (عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله ما حق جاري علي؟ قال: (إن مرض عدته وإن مات شيعته وإن استقرضك أقرضته وإن اعوز سترته وإن أصابه خير هنأته وإن أصابته مصيبة عزيته ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح ولا تؤذه بريح قدرك الا أن تعرف له منها)، ولا مانع للجار أن يعطي لجاره ويساعده إن كان فقيرًا، فالجار هو أقرب الناس نجدة لجاره، وأسرعهم إجابةً لندائه، ومثل هذه المواقف تُورث التوادَّ والتراحم بين المسلمين، خاصة الجار مع جاره.
ومن حقوق الجوار: أن تنصره ظالمًا أو مظلومًا: ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ»، فواجب على الجار أن يسعى في الإصلاح بين جيرانه، وأن يكون أداة صُلح وخير، لا أداة إفساد وتدمير، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:10]. وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ». قَالُوا بَلَى. قَالَ «إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ».
ومن حقوق الجوار: تعليمه العلم الشرعي، ومصاحبته إلى المساجد ومجالس العلم: فقد أخرج الطبراني في “المعجم الكبير” أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطب ذات يوم، فأثنى على طوائف من المسلمين خيرًا، ثم قال: (ما بال أقوام لا يُفقِّهون جيرانهم، ولا يعلِّمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقَّهون ولا يتَّعظون؟ والله ليعلِّمن قوم جيرانهم ويفقِّهونهم، ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلَّمن قوم من جيرانهم، ويتفقَّهون ويتعظون؛ أو لأُعاجلنهم العقوبة)، ثم نزَل، فقال قوم: مَن ترونه عنى بهؤلاء؟ قال: عنى الأشعريين؛ فإنهم قوم فُقهاء، ولهم جيران من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، ذكرت قومًا بخير، وذكرتنا بشرٍّ، فما بالنا؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرة أخرى: (ليعلِّمن قوم جيرانهم، وليعظنهم، وليأمرنهم ولينهونهم، وليتعلَّمن قوم من جيرانهم، ويتعظون، ويتفقَّهون؛ أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا)، فقالوا: يا رسول الله، أَنُفطن غيرنا؟ فأعاد عليهم قوله، فأعادوا قولهم: أنُفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضًا، فقالوا: أمْهِلنا سنة – فأمَهلهم سنة؛ ليعلِّموهم، ويفقِّهوهم، ويعظوهم، ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الآية: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:78 -79]
ومن حقوق الجوار: إحسان الظن بالجار: فإذا رأى الجار ما يريبه من جاره، فليحسن به الظن، وإذا تكلَّم معه، فليحمل كلامه محملاً حسنًا؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات:12]. فعلى الجار أن يحسن الظنَّ بجاره، لأن إساءة الظن بالآخرين تُورث الشحناء والبغضاء بين أفراد المجتمع، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللَّهِ. فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ أَمَا وَاللَّهِ لَنُنَبِئَنَّهُ قُمْ يَا فُلاَنُ رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَخْبِرْهُ. قَالَ فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلاَنٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلاَمَ فَلَمَّا جَاوَزْتُهُمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلاَناً قَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللَّهِ. فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلَى مَا يُبْغِضُنِي فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَقَالَ قَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «فَلِمَ تُبْغِضُهُ». قَالَ أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّي صَلاَةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. قَالَ الرَّجُلُ سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتُهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ أَسَأْتُ الْوُضُوءَ لَهَا أَوْ أَسَأْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لاَ. ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. قَالَ فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْتُ فِيهِ أَوِ انْتَقَصْتُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئاً فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لاَ. ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُعْطِي سَائِلاً قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئاً فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. قَالَ فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ كَتَمْتُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئاً قَطُّ أَوْ مَاكَسْتُ فِيهَا طَالِبَهَا قَالَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لاَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُمْ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (حقوق الجوار)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن حقوق الجوار: عدم إيذاء الجار: ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ)، فدل ذلك على أن عدم أذى الجار من الإيمان؛ وفيه أيضا: (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ». قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، وقد جاء الوعيد لمن آذى الجار: ففي صحيح الأدب للبخاري، ومسند أحمد: (أن الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا». قَالُوا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ «لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِىَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ». قَالَ فَقَالَ «مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ». قَالُوا حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ. قَالَ «لأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ»، وجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الزنا بحليلة الجار من أعظم الذنوب عند الله – تعالى – فقد أخرج البخاري ومسلم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنه – قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، بل وجعل الاسلام أذى الجار سببا في دخول النار: ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلاَنَةَ تَذْكُرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِى جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا قَالَ «هِيَ فِي النَّارِ». وفيه: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ»، فاحذر أخي من أذى الجار؛ حتى لا يشكوك إلى الله – تعالى – يوم القيامة.
ومن صور إيذاء الجار: الوقوع في عرضه: من سَبٍّ، أو لعْن، أو شتم، أو غيبة، أو نميمة، وسوء الظن به والتجسس عليه، أو تشغيل المِذياع أو التلفاز بصوت عالٍ، أو يغلق بابه دون جاره، ويمنعه فضله، فكم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول: يا رب، سل هذا لم أغلق عني بابه ومنعني فضله، وهناك من يمنع فضله عن جاره فيبيت شبعانَ وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم، وهناك من يلبس أجمل الثياب، ويضع أفضل الطيب، وبجواره جاره الذي ليس عليه رداء يكتسي به من برد الشتاء، وهناك من يدخل بألوان الفاكهة على أهل بيته، وأولاد جاره الفقراء ينظرون إليه دون أن يُعطيهم، فكل هذا من إيذاء الجار.
ومنها أيضا: أن يزرع شجرة أو نخلة بجوار جداره، ثم يسقيها بالماء، فيتضرَّر الجدار بذلك، أو أن يبني جدارًا – دون إذنه – فيحجب عنه الشمس، ويمنع عنه الهواء، أو أن يفرح وجاره مهموم، أو ينشر الملابس دون عصرها، فيتساقط الماء على ملابس الجار الذي يسكن تحته، وكذا إلقاء القمامة والكناسة حول داره وأمام بابه، أو الدق في وقت الليل.
ومن حقوق الجوار: الصبر على أذى الجار: فربما يبتلى المرء بجار سيِّئ الجوار، فعليه أن يصبر على آذاه، وهذا من حُسن الجوار، يقول الحسن البصري: “ليس حُسن الجوار كف الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار: الصبر على الأذى من الجار”. وفي صحيح ابن حبان: (عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه جارا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات اصبر، ثم قال له في الرابعة أو الثالثة اطرح متاعك في الطريق، ففعل، قال فجعل الناس يمرون به ويقولون ما لك، فيقول آذاه جاره، فجعلوا يقولون لعنه الله، فجاءه جاره، فقال رد متاعك، لا والله لا أوذيك أبدا)،
ومن حقوق الجوار: أن يُسلم عليه إذا رآه، وأن يعوده في مرضه إذا مرِض، وإن يُشيع جنازته إن مات، وأن يواسيه في المصيبة، ويهنِّئه في الفرح، وأن يستر ما ينكشف من عورته، ويغض البصر عن محارمه وأهل بيته، ولا يحسده على ما آتاه الله من فضله.
وعليك أيها المسلم أن تسجد لله شكرًا إذا وجدت جارًا يقوم بهذه الحقوق، فهذه من سعادة الدنيا التي أنعم الله عليك بها؛ فقد أخرج ابن حبان – بسند صحيح – من حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني، وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء)، فكما أن الجار الصالح من سعادة الدنيا، فإن الجار السوء من الشقاء الذي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – دائمًا يستعيذ منه؛ فقد أخرج الحاكم في “المستدرك” من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحوَّل) صحيح الجامع.
الدعاء