خطبة عن الوضوء ،وحديث ( مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ،ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ،لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ ،غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)
سبتمبر 1, 2023خطبة حول حديث (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ)
سبتمبر 3, 2023الخطبة الأولى ( الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
رُوي في الصحيحين : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ – رضى الله عنهما – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ :« الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ » .وَقَالَ آدَمُ عَنْ شُعْبَةَ « الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ عَلَيْهِ » ،وروى الامام مسلم في صحيحه : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَهْلاً يَا بُنَيَّةُ أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ». ،وروى الامام أحمد والنسائي : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ »
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذا الأدب النبوي الكريم ، والذي يذكرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموت ، ويحذر فيه من البكاء والنياحة على الميت حتى لا يتأذى بذلك ، وبداية : فالموت حق لا شك فيه ولا مراء , وهو حقيقة قد أقر بها كل الخلق ,وخضع بها كل الجبابرة , واستذل بها كل متكبر عنيد ,وقد قضاها الله سبحانه على كل من في الأرض ،ليعلموا قدر ضعفهم ،وانعدام حولهم ،وزوال قدرتهم , كما يعلموا عظمة ربهم وقدرته وقيوميته سبحانه فقال الله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (26) :(28) الرحمن ،كما أمر المسلم بتذكر الموت ,والتدبر في اثره ,والاستعداد له ،فقال الله تعالى 🙁 وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (10)، (11) المنافقون، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بتذكر الموت والتدبر في عاقبته ، ففي سنن ابن ماجه : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ : « أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ». قَالَ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ : « أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ ».، فالله عز وجل جعل الموت حلقةً من حلقات الحياة يتم به الاختبار والابتلاء؛ فالموت ليس فناء كما يعتقد الجاهلون، بل هو انتقال من دار إلى دار، وبرزخ يفصل بين حياتين: حياة الاختبار والابتلاء، وحياة الجزاء والبقاء، والحياة الحقيقية هي حياة الآخرة ،وإن آثر أكثر الناس الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [الأعلى:16-17]. وقال: {إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» (رواه البخاري). ،والموت هو اليقين حقّا، وإن أعرض الناس عنه وحادوا، والحياة الدنيا دار البلاء والاختبار والعمل لما بعد الموت. قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. وقال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: الموت. ولما مات عثمان بن مظعون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما عثمان فقد جاءه اليقين». فالموت حق لا يُعرض عن ذكره إلا غافل، ولا يفر منه إلا جاهل، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره والاستعداد له، فقال: «أكثروا ذكر هادم اللذات». ففي ذكر الموت فوائد عظيمة، ومنها : أن ذكر الموت أدعى لقصر الأمل في الدنيا ،والزهد في زخارفها، والحرص على العمل الصالح وإحسانه، ومحاسبة النفس على ما فعلت، والمبادرة للتوبة النصوح، وأداء الحقوق إلى أصحابها، ثم هو يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي، وذكر الموت في كل حال أدعى لصلاح الحال؛ ففي صلاتك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكر الموت في صلاتك، فإن المرء إذا ذكر الموت في صلاته فحري أن يحسن صلاته، وصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها» (صحيح الجامع). وفي صباحك ومسائك: ففي صحيح البخاري : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِمَنْكِبِي فَقَالَ « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) .وتذكر الموت عند نومك، ففي الصحيحين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّى بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ». وتذكر الموت عند يقظتك، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ « بِاسْمِكَ نَمُوتُ وَنَحْيَا ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » ،والموت راحة للمؤمن من تعب الدنيا ونصبها، ونهاية سعيدة لهذا الابتلاء الذي عاناه فيها، أما الكافر فبالموت يبدأ شقاؤه وعناؤه والعياذ بالله، فقد روي في الصحيحين : (عَنْ أَبِى قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ « مُسْتَرِيحٌ ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ « الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ » ، وتبدو راحة المؤمن بعد الموت في بشارة الملائكة له عند الموت ، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت:30-32]. والبلاء الذي يتعرض له المؤمن قبل موته يكفر عنه ذنوبه ويرفع درجته؛ ففي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ».
أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم : :« الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ » أو « الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ عَلَيْهِ » ، ففي بيان المعنى المقصود من هذا الحديث تباينت أقوال العلماء، فاحتج بعضهم بقوله تعالى : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [فاطر: 18] ، وقال آخرون إن الأحاديث الواردة في هذا المعنى هي أحاديث صحيحة، ولم يبق إلا التوفيق بينها وبين الآية الكريمة، وهذا ما حاوله العلماء من القديم، وذكروا في ذلك عدة تأويلات، نقلها الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” فقال :
الرأي الأول : أن المراد بالعذاب في الحديث هو العذاب بمعناه اللغوي ،وهو: مطلق الألم، لا العذاب الأخروي، فالميت يتألم بما يرى من جزع أهله، وما يسمع من بكائهم عليه، فمن المعلوم أن الميت يتألم في قبره ، وهو غير معزول عن أهله وقرابته وأحوالهم ، وفي “مجموع فتاوى ابن عثيمين” سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) ؟ ، فأجاب :” معناه أن الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يعلم بذلك ويتألم ، وليس المعنى أن الله يعاقبه بذلك ،لأن الله تعالى يقول : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) فاطر 18، والعذاب لا يلزم أن يكون عقوبة ،ألم تر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن السفر قطعة من العذاب ) والسفر ليس بعقوبة ،لكن يتأذى به الإنسان ويتعب ،وهكذا الميت ،إذا بكى أهله عليه ،فإنه يتألم ويتعب من ذلك ، وإن كان هذا ليس بعقوبة من الله عز وجل له ،وهذا التفسير للحديث تفسير واضح صريح ،ولا يرد عليه إشكال ،ولا يحتاج أن يقال : هذا فيمن أوصى بالنياحة ،أو فيمن كان عادة أهله النياحة ولم ينههم عند موته ،بل نقول : إن الإنسان يعذب بالشيء ولا يتضرر به ”
الرأي الثاني : أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يعذبه أهله، كما روى أحمد : (عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ عَلَيْهِ إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ وَاعَضُدَاهُ وَانَاصِرَاهُ وَاكَاسِبَاهُ جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ أَنْتَ عَضُدُهَا أَنْتَ نَاصِرُهَا أَنْتَ كَاسِبُهَا). ورواه الترمذي بلفظ: (أَنَّ مُوسَى بْنَ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ وَاجَبَلاَهُ وَاسَيِّدَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلاَّ وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ أَهَكَذَا كُنْتَ ». ). وشاهده ما روى البخاري في صحيحه: (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ – رضى الله عنهما – قَالَ أُغْمِىَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِى وَاجَبَلاَهْ وَاكَذَا وَاكَذَا. تُعَدِّدُ عَلَيْهِ فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلاَّ قِيلَ لِي آنْتَ كَذَلِكَ ).
الرأي الثالث: ما اختاره الإمام البخاري، وجزم به: أن المراد بالبكاء في الحديث بعضه، وهو النوح، والمراد بالميت بعض الموتى أيضا، وهو من كان النوح من سنته وطريقته، فكان أسوة سيئة لأهله، أو عرف أن لهم عادة بفعل ذلك، فأهمل نهيهم عنه ،واستدل البخاري لذلك بأدلة ذكرها في ترجمة الباب، ومنها قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) التحريم 6 وحديث: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) صحيح الأدب للبخاري ، وحديث: « لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ، لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ » متفق عليه، ومقتضى هذا ،أن الميت إنما يعذب لتقصيره في تربية أهله، وإهماله في تأديبهم وتعليمهم، وضعف رعايته لما حمله الله من مسئولية عنهم، وهو المأمور أن يقيهم النار كما يقي نفسه، فالحقيقة أنه يعاقب بتفريطه ، وذنبه هو لا بذنب أهله، أي أنه لم يزر وزر غيره ،أما البكاء من غير نوح فلا عقاب عليه، وقد جاء عن أبي مسعود الأنصاري، وقرظة بن كعب قالا: (رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح). أخرجه ابن شيبة، والطبراني، وصححه الحاكم. ،وقال الحافظ بعد نقل هذه الوجوه وغيرها :”ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات ، فينزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلا: من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك، عذب بصنعه. ومن كان يعرف من أهله النياحة، فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ: كيف أهمل النهي؟ ومن سلم من ذلك كله، واحتاط، فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه، وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب”.،
وهناك وجه آخر ذكره العلامة المناوي في “الفيض”، وهو: أن المراد بالميت في الحديث المشرف على الموت، والتعذيب: أنه إذا احتضر، والناس حوله يصرخون ويتضجرون يزيد كربه، وتشتد عليه سكرات الموت، فيصير معذبا به. وقال العراقي: والأولى أن يقال: سماع صوت البكاء هو نفس العذاب، كما أننا نعذب ببكاء الأطفال. فالحديث على ظاهره بغير تخصيص، وصوبه الكراماني . فالعذاب هنا بمعناه اللغوي كما في الوجه الأول، ولكن هنا فسر الميت بالمحتضر.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: ليس هناك تعارض بين الأحاديث والآية التي ذكرتها عائشة رضي الله عنها، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر ،ومن حديث المغيرة وغيرهما في الصحيحين ،وليس في البخاري وحده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الميت يعذب بما يناح عليه”، وفي رواية للبخاري: “ببكاء أهله عليه”، والمراد بالبكاء النياحة وهي رفع الصوت، أما البكاء الذي هو دمع العين فهذا لا يضر، وإنما الذي يضر هو رفع الصوت بالبكاء، وهو المسمى بالنياحة، والرسول صلى الله عليه وسلم قصد بهذا منع الناس من النياحة على موتاهم، وأن يتحلَّوا بالصبر ويكفوا عن النَّوْح، ولا بأس بدمع العين وحزن القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه إبراهيم: ” فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا ،وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ » ” رواه البخاري ،فالميت يعذب بالنياحة عليه من أهله، والله أعلم بكيفية العذاب الذي يحصل له بهذه النياحة، وهذا مستثنى من قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فاطر 18، فإن القرآن والسنة لا يتعارضان، بل يُصَدّق أحدهما الآخر ،ويفسر أحدهما الآخر، فالآية عامة والحديث خاص، والسنة تفسر القرآن ،وتبين معناه، فيكون تعذيب الميت بنياحة أهله عليه مستثنى من الآية الكريمة، ولا تعارض بينها وبين الأحاديث. وأما قول عائشة رضي الله عنها فهذا من اجتهادها وحرصها على الخير، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مقدّم على قولها ،وقول غيرها؛ لقول الله سبحانه: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، وقوله عز وجل: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، والآيات في هذا المعنى كثيرة،
وبهذا يتضح لنا، أن الحديث لا يعارض القرآن في تقرير مبدأ المسئولية الفردية ،وأنه لا مغمز في ثبوته وصحته، مادام له أكثر من وجه صحيح لتأويله.
الدعاء