خطبة عن (ردود الأفعال عند النبي المختار)
يونيو 28, 2025خطبة عن (حُقُوقُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ)
يونيو 28, 2025الخطبة الأولى (دعاء الغريق)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (22) يونس
إخوة الإسلام
إن الله تعالى شرع لعباده الدعاء، وأمرهم به، ووعدهم بالإجابة، فقال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]، قال الله تعالى: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر:60)، وقال الله تعالى: [وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] الأعراف:29، فالدعاء طاعة لله، وامتثال لأمره، وهو أكرم شيء على الله، ففي سنن ابن ماجه وغيره: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الدُّعَاءِ»، والدعاء محبب لله عز وجل: ففي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ»، والدعاء سبب لانشراح الصدر، وفيه تفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور، وفيه دليل على التوكل على الله، فأعظم ما يتجلى التوكل على الله تعالى حال الدعاء؛ وذلك أن الداعي حال دعائه هو مستعين بالله، ومفوض أمره إليه وحده دون سواه.
وبالدعاء تعلو الهمة وتتسامى؛ وذلك أن الداعي يأوي إلى ركن شديد، ينزل به حاجاته، ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الخلق، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من مِنَّتِهم؛ فيقوم العبد لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه، فَيُفْتَح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والذل والخضوع له، والتملق بين يديه، قال بعض العُبَّاد: إنه لتكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح لي من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه ما أحبُّ معه أن يُؤخِّر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال، فالدعاء هو البابُ الذي تأتي منه الخيرات والمسرَّات، والدعاء دليلٌ على سلامةِ العبدِ من الكِبر؛ لأنَّه بدعائه يلجأ إلى الله ويرجو رحمته، كما أنَّ الدعاءَ من صفاتِ المتقين،
أيها المسلمون
وقد روى الحاكم في المستدرك وصححه الذهبي: (عن أبي عمار عن حذيفة رضي الله عنه رفعه قال: (يأتي عليكم زمان لا ينجو فيه إلا من دعاء دعاء الغريق)، فانظر إلى هذا التشبيه البديع، الذي جاء به الصحابي الجليل حذيفة، (دعاء الغريق)، فحالة الغريق معلومة، فهو في حالة نفسية وجسدية، والماء يطبق عليه من كل ناحية، وفرصة نجاته قد تكون قليلة، فلا رجاء للغريق إلا دعاء الله بقلب مخلص، طالبا النجاة، وقد شبهها حذيفة بدعاء الغريق، ليبين أهمية الصدق، والإخلاص فيه، وليس مجرد الدعاء فقط والقلب لاهٍ وغافل. فالحالة التي وصفها حذيفة حالة الغريق الذي يكافح من أجل الحياة والنجاة، وهو يدعو الله، ولا يرى منقذاً سواه، فقد انقطعت عنه الأسباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن يؤمنْ بالله ويعتصمْ بفضله، ينجُ ويحيا، ومن أقبل على الله تعالى- اقبالاً صادقًا، ينَّجِّيَه ويجيرَه، ويسلِّمَه ويحفظه، ووصفه بِدعاء الغريق: فالغريق يُوقن بأمرين: (الهلاك، وأنه لا يُنجي منه إلا الله) فيكون دعاؤه دعاء مُضطرّ ومُوقِن بالهلاك، وصادق في اللجوء إلى الله، وهكذا حالنا إذا انعقدت ألوية الفتن، فالدُّعاء الخالص، هو طوق نجاتنا؛ فألحوا فيه وأكثروا منه، واجتهدوا فيه مع تفويض الأمر كلِّه لله،
إنَّ حالَ الغَرَقِ هي أجلى صورِ الاضطرارِ، الذي أخبرَ اللهُ بإجابتِه دعاءَ أهلِه، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (22) يونس، وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل:62]. وانفردتْ دعوةُ الغريقِ بما حَوَتْهُ مِن جُللِ معاني العبوديةِ بمزيدِ اضطرارٍ، فدعاء الغريقِ قد بلغَ في سماءِ التعلقِ المَحْضِ باللهِ -تعالى-والإفلاسِ مما عداه؛ وذاك أشرفُ حالٍ للعبدِ وأعزُّه عند اللهِ،
والغريقُ إذ يدعو فإنه قد تيّقنَ بَوارَ حيلتِه وانقطاعَ قوَّتِه؛ حتى باتَ مِن مَضْربِ المثلِ بالمعدومِ، وكان ذلك العدمُ عينَ حقيقةِ تعلُّقِ المخلوقِ بالمخلوقِ دون الخالقِ، ودعاءُ الغريقِ تكونُ إجابةُ دعائه متحققةً؛ لا يحولُ دونها حائلٌ، ولا يمنعُ منها مانعٌ؛ لِيبقى ذلك الدعاءُ بكرامتِه على اللهِ عمادًا صامدًا في استجلابِ فرجِ اللهِ ونعمائِه حين تتهاوى بقيةُ الأسبابِ ولم تَعُدْ تُجْدي على أربابِها شيئًا.
ودعوةُ الغريقِ قد أُتْرِعَتْ مِن زُلالِ كأْسِ حُسْنِ الظنِّ باللهِ الدِّهاقِ أقوى ما يكونُ من الرجاءِ في اللهِ والانقطاعِ مما عداه؛ فجاءتْ إجابةُ اللهِ لها مِن جنسِ ظنِّها، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «قَالَ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي»، قال يحيى بنُ معاذٍ: ” أَوْثَقُ الرَّجَاءِ رَجَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَأَصْدَقُ الظُّنُونِ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللّهِ “، وقال إبراهيمُ بنُ شيبانَ :”حسْنُ الظنِّ باللهِ هو اليأسُ عن كلِّ شيءٍ سوى اللهِ -عزَّ وجلَّ- “.
ودعوة الغريق كيف كانت مِن نبيٍّ مُعَلَّمٍ، دعا بها غريقًا في بطنِ الحوتٍ، في ظلماتِ البحرِ اللُّجيِّ؛ فنجّاه اللهُ بها، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء:87،88]، وفي سنن الترمذي: (عَنْ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ».
ويقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: “فالمسؤولُ كائنًا مَن كان لا يَفعلُ شيئًا إلا بمشيئةِ اللهِ وقدرتِه؛ فهو أحوجُ إلى معونةِ اللهِ مِن الغريقِ إلى مَن يُخلِّصُه؛ فإنَّ الغريقَ غايتُه أن يموتَ؛ وهذا إنْ لم يُغِثْهُ اللهُ لم يفعلْ شيئًا قطَّ؛ بل هَلَكَ، فافتقارُ الخلْقِ إلى الخالقِ أعظمُ مِن افتقارِ الغريقِ إلى المُنْقِذِ، والمسجونِ إلى مَن يرسلُه، ولهذا قيل: استغاثةُ المخلوقِ بالمخلوقِ أبلغُ مِن هذا، كالاستغاثةِ بالمعدومِ”.
وإذا كان استشعارُ المؤمنِ افتقارَه إلى اللهِ كحالِ الغريقِ مطلوبًا في كلِّ شأنِه؛ فإنَّ ذلك الاستشعارَ يتأكَّدُ حالَ شدةِ الخطِرِ الذي يَدْهَمُ الدِّينَ كحالِ الفتنِ، أو كان كرْبًا يتعلَّقُ بعمومِ الأمةِ، ومن هنا تواطأتْ وصايا أهلِ العلمِ بلزومِ دعاءِ الغريقِ في هذه الأحوالِ؛ إذ هو أرجى أسبابِ الخلاصِ من تلك المخاطرِ والأهوالِ، قال أبو هريرةَ -رضي اللهُ عنه-: ” تكونُ فتنةٌ لا ينجِّي منها إلا دعاءٌ كدعاءِ الغريقِ”، وقالت فاطمةُ النيسابوريةُ: ” الصادقُ المقرَّبُ في بحرٍ تضطربُ عليه أمواجٌ، يدعو ربَّه دعاءَ الغريقِ يسأل ربَّه الخلاصَ والنجاةَ”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (دعاء الغريق)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ولقبول الدعاء شروط لا بد من توفرها، وهناك موانع لا بد من تجنبها، وأسباب ينبغي الحرص على توفرها، فمن شروط الدعاء: دعاء الله وحده لا شريك له بصدق وإخلاص ، وألا يدعو المرء بإثم أو قطيعة رحم، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاِسْتِعْجَالُ قَالَ «يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ». ومن شروط الدعاء: أن يدعو بقلب حاضر، موقن بالإجابة ، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ».
ومن أسباب إجابة الدعاء: افتتاح الدعاء بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختمه بذلك، ورفع اليدين، وأن يعزم على الله ويلح عليه، وأن يتحرى أوقات الإجابة كالثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وعند الإفطار من الصيام ، وغير ذلك مع أكل الطيبات واجتناب المحرمات.
فالعبد مع الدعاء رابح، ففي مسند الإمام أحمد: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «ما مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا». قَالُوا إِذاً نُكْثِرُ. قَالَ «اللَّهُ أَكْثَرُ». فالواجب على الإنسان ألا يستحسر، بل يستمر في الدعاء، ويحسن ظنه بربه، وقاله شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم): (إذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له)، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه”.
الدعاء