خطبة عن الكلمة الحسنة الطيبة (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)
مايو 7, 2022خطبة عن ( الدليل العقلي لبَشَرية الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَمَ)
مايو 7, 2022الخطبة الأولى ( الله قَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ، والبعث بعد الموت حق )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (36) :(40) القيامة ، وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (33) الاحقاف
إخوة الإسلام
الإيمان بما بعد الموت حقيقة على المسلم أن يؤمن بها إيماناً جازماً وقطعياً، وهي بمعنى آخر : الإيمان باليوم الآخر ، والذي معناه: التصديق الجازم بكل ما يحدث بعد الموت بداية من عذاب القبر وما فيه من نعيم، وبالبعث بعد القبر، والحساب والميزان حيث توزن الأعمال ، ثم الثواب والعقاب، وآخرها الجنة والنار، وبكلّ شيء ورد ذكره عن يوم القيامة ، ويعد البعث بعد الموت، وحشر الخلائق إلى بارئها لنيل جزائها يوم القيامة، من العقائد الأساسية في القرآن الكريم، ولما كانت هذه العقيدة محل شك واستبعاد من قبل المشركين كما حكى الله عنهم قولهم: { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }(الصافات: 16)، فقد اهتم القرآن اهتماماً بالغاً بإثبات هذه العقيدة وتقريرها ، والرد على المشككين فيها، وتنوعت أدلة القرآن في تقرير هذه العقيدة بين إخبار بوقوع البعث، وتدليل على وقوعه، واستدلال بالحس على إمكانه، وتشبيهه بأمور تجري واقعاً في الحياة، وبين ذكر قصص متنوعة لحالات تم فيها بإرادة إلهية إحياء الموتى، وسوف نبين هذا كله من خلال استعراضنا لآيات القرآن الواردة في هذا الشأن ، وكذا بعض الأحاديث النبوية التي ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث بعد الموت . والبعث بعد الموت دلَّ عليه الكتاب، والسُّنَّة المطهرة ، والإجماع. فمِن الكتاب: قوله تعالى: ﴿ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [التغابن: ٧]. ومن السُّنة: حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: “يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ” ، وقد أجمع السَّلَف رحمهم الله على إثبات البعث ليوم القيامة. وقد أثبتت آيات القرآن الكريم حقيقة البعث بعد الموت في مواضع عدة ،وبطرق ودلائل متنوعة ، ومنها : أولاً: خبر القرآن بالبعث: قال الله تعالى في تقرير عقيدة البعث بعد الموت: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (12) :(16) المؤمنون ، وقال الله تعالى: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (99) ،(100) المؤمنون ، وقال الله تعالى: ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (38) النحل، وقال الله تعالى: ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (7) التغابن، وقال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (38) الأنعام ، فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الأموات يحييهم الله جميعاً يوم القيامة فيبعثهم من قبورهم، ويحشرهم إليه سبحانه، فيجازى المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
ثانياً: من أدلة القرآن في تقرير هذه العقيدة : الاستدلال بعموم قدرته سبحانه: فالله عز وجل من صفته القدرة المطلقة، فهو سبحانه على كل شيء قدير، وما دام له القدرة المطلقة سبحانه، فإن مقتضى ذلك أن يقدر على إحياء الموتى، لكن المشركين استبعدوا ذلك الأمر وأنكروه، فضرب لهم سبحانه الأمثلة بأمور مشاهدة من الحياة هي نظير بعث الأجساد وحشرها، قال الله تعالى : ( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (49): (74) الواقعة ، وقد تضمنت هذه الآيات أربعة أدلة حسية ومشاهدة من واقع الإنسان وحياته على جواز البعث وإمكانه: الدليل الأول: ماء الرجل ( المني ) قال الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } ووجه الاستدلال بهذا الدليل على البعث، أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء، فإذا أراد الإنسان إخراجه تجمع من أجزاء البدن، وأخرجه ماء دافقا إلى قرار الرحم ليتكون إنساناً جديداً، فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها، وكون منها ذلك الشخص، فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى من التراب ؟! وقد تكرر هذا الدليل في مواضع أخر من كتاب الله منها قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (5) :(7) الحج ، وقول الله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (36) :(40) القيامة ، وفي قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) الطارق (5) :(8)
أما الدليل الثاني: فهو في إنبات النبات: قال الله تعالى: ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (63): (67) الواقعة، ووجه الاستدلال أن الحب إذا وقع في الأرض الندية، واستولى عليه الماء والتراب فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد، ولكنه لا يفسد بل يبقى محفوظاً حتى إذا ازدادت الرطوبة انفلقت الحبة فلقتين، فيخرج منها ورقتان، ثم تكبر لتستوي شجرة تامة، أفلا يدل ذلك على قدرة كاملة، وحكمة شاملة، فمن قدر على إخراج شجرة باسقة من بذرة صغيرة كيف يعجز عن جمع الأجزاء وتركيب الأعضاء بعد تفرقها وتفتتها. وقد تكرر هذا الدليل في غير ما آية منها قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (57) الأعراف ، أما الدليل الثالث كما جاء في الآيات : ففي إنزال المطر : قال الله تعالى: ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (68) ،(69) الواقعة ، ووجه الاستدلال بهذا الدليل على البعث أن الماء عند صعوده إلى السماء يتحول إلى بخار، وتعبث به الرياح فتفرقه تفرقاً عظيماً، ومع ذلك يجمعه سبحانه، ويعيده إلى حالته الأولى، وينزله إلى مواضع يريدها، فمن قدر على جمع ذرات الماء وإعادتها إلى حالتها الأولى، وإرجاعها من حيث صعدت، كيف يعجز عن جمع ذرات الإنسان ورفاته وإعادته. أما الدليل الرابع الذي بينته الآيات : فهو استخراج النار من الشجر الأخضر: قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) (71) :(73) الواقعة ، ووجه الاستدلال بهذه الآيات على البعث بعد الموت قدرته سبحانه وتعالى على ما هو أصعب من جهة العقل من بعث الأجساد وإحيائها، وهو استخراج النار من الشجر الأخضر، فإن الله ألهم بني آدم استخراج النار من الشجر الأخضر على رغم التنافر بين خاصتيهما، فالشجر أخضر رطب بارد، والنار يابسة حارة، فمن قدر على إيداع الحرارة في الأجسام الرطبة، فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها بعد تفتتها واضمحلالها . وقد تكرر ذكر هذا الدليل في غير ما آية منها قوله تعالى: ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (78) :(83) يس
أيها المسلمون
ومازلنا مع أدلة القرآن الكريم في تقرير عقيدة البعث بعد الموت : ثالثاً: الاستدلال بأن من قدر على ابتداء الخلق، فهو قادر على الإعادة، وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر، ووضوحها بين، فإن من قدر على الخلق أول مرة، فهو قادر على إعادة ما خلق، فإن الخلق الأول حصل من لا شيء، والإعادة حاصلة من بقايا مخلوق سابق، فهي أيسر في قانون العقل، وأما في قانون القدرة الإلهية فالكل سواء، وقد ورد هذا الدليل في مواضع من كتاب الله، ففي سورة البقرة: 28 : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }، وفي سورة الإسراء: ( 49-51) :{ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ، وفي سورة العنكبوت: (19) { أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }، وفي سورة الروم (27): { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ،وفي سورة يس (79): { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }. ومن أدلة القرآن الكريم في تقرير عقيدة البعث بعد الموت : رابعاً : الاستدلال بأن من خلق الأعلى والأكبر فقدرته على خلق الأدنى والأصغر أولى، وهذا في حقنا أما في حق الله فالكل في قدرته سواء كبر المخلوق أم صغر، فخلق السموات كخلق الذر الكل سواء في ميزان القدرة الإلهية، ولكنه سبحانه يضرب الأمثال لنا بما نعقله وندركه، وقد ورد هذا الدليل في آيات منها في سورة الإسراء (99): { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } وفي سورة يس (81):{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وفي سورة الأحقاف (33): { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، فاستدل باقتداره على خلق السموات على اقتداره على إعادة الأجساد.
خامساً: من أدلة القرآن الكريم في تقرير عقيدة البعث بعد الموت : الاستدلال على وقوع الحشر لمحاسبة العباد، وإثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين، واستيفاء المظالم والحقوق التي لم تستوف في الدنيا، فإن الخلق في الدنيا يتظالمون، فيعتدي بعضهم على بعض، وقد يموت المظلوم، ولما يقتص من الظالم، والله حكم عدل، فلو لم يكن هناك بعث للحساب والجزاء لانتفت صفة العدالة في حقه تعالى، فكان البعث بعد الموت ضروريا لمجازاة المحسن ومعاقبة المسيء، وقد ورد هذا المعنى في العديد من الآيات، قال الله تعالى: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } ( يونس 4 )، وقال الله تعالى: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } ( طه: 15)، وقال الله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (27) ،(28) ص ، فلو لم يكن هناك بعث لكان هذا الخلق عبثاً ولا يستوي المؤمنون والمفسدون والمتقون والفجار . قال الرازي في تفسيره: ” واعلم أن من سلّط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضيا بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا، وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا ”
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الله قَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ، والبعث بعد الموت حق )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومازال حديثنا موصولا عن استدلالات آيات القرآن الكريم بالبعث بعد الموت : سادساً: الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحة الحشر والنشر، حيث حكى القرآن كثيرا من القصص الواقعية التي دلت على جواز بعث الأجساد بعد موتها، كما في قصة البقرة، وهي قوله تعالى: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (البقرة: 73)، فلما ضربوا الميت ببعض البقرة قام وأخبر عن قاتله، وهي دليل على بعث الأجساد بعد موتها. ومنها قصة إبراهيم – عليه السلام – حيث طلب من ربه رؤية كيف يحيي الموتى، فأراه سبحانه ذلك عياناً، قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (البقرة:260)، ومنها قصة الذي مرّ على قرية فرأى خرابها ودمارها وموت أهلها، فتساءل كيف يحيي الله أهل هذه القرية ؟ فأراه الله صورة حية وواقعة مشاهدة لإحياء الموتى، إذ أماته مدة مائة عام ثم أحياه، وطلب منه مشاهدة إحياء حماره فرأى ذلك رأي العين، قال الله تعالى: ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (259) البقرة ، ومنها قصة أصحاب الكهف، فإن الله أيقظهم من منامهم بعد فترة طويلة من الزمن، وعلل ذلك بقوله: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا } (الكهف: 21)، ومنها قصة أيوب – عليه السلام – الذي ابتلاه الله في نفسه وأهله وماله، حيث مات أهله، وفقد ماله، واعتلت صحته، لكنه سبحانه منّ عليه برجوع كل ما ذهب منه، بما فيهم أهله، قال تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }(الأنبياء: 84)، ومنها ما أظهره الله تعالى على يد عيسى – عليه السلام – من إحياء الموتى، قال تعالى: { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ }(آل عمران 49) فكان إحياء الموتى – بإذن الله – معجزة من معجزات نبي الله عيسى – عليه السلام -، وكان ذلك دليلا حسياً لمن حضر على بعث الأجساد، ودليلا سمعياً قطعياً لتواتره لمن لم يحضر .
فهذه هي أصول الدلائل التي ذكرها الله تعالى في كتابه على صحة عقيدة البعث بعد الموت، وإعادة الأجساد إلى وضعها قبل الموت، وهي أدلة واضحة جلية، خاطب بها سبحانه أصناف الخلق من المنكرين وغير المنكرين، فالمنكرون ليؤمنوا وغير المنكرين ليزدادوا إيماناً، وقد ترقى سبحانه في مخاطبة أصناف البشر، فمنهم من قرب له صورة البعث بما يعرف من أحوال نفسه وأحوال العالم كإنزال المطر وإحياء الأرض وإنبات النبات، ومنهم من خاطبه بضرورات العدل في وجوب إثابة المحسنين ومعاقبة المحسنين، ومن لم يقتنع لا بالدليل العقلي الحسي ولا بالدليل العقلي المنطقي، خاطبه بالقصة والحكاية التي تسرد وقائع ثبتت صحتها بالدليل المتواتر عن أناس قاموا من بعد موتهم وأخبروا بما طلب منهم . ومن لم يؤمن بكل تلك الأدلة ولم يقنعه أي منها، فلا شك في عناده وجحوده وهذا عاقبته النار وبئس المصير، وقد نص سبحانه على كفر منكر البعث بعد الموت، لأنه مكذب بخبر الله تعالى، ومنكر لما هو معلوم من الدين بالضرورة، قال تعالى: ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) (35) :(37) الكهف
الدعاء