خطبة عن (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
ديسمبر 25, 2024الخطبة الأولى (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (21) الحديد
إخوة الإسلام
إن الله سبحانه وتعالى منزه عن الظلم، لأن الظلم من صفات النقص، وهذا مستحيل في حق الله تعالى، فهو سبحانه موصوف بالكمال، وموصوف بالعدل، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (40) النساء، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) يونس:44، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا)، وليس للعباد عليه سبحانه وتعالى حق يستوجبون به فضلا أو إحسانا، بل ما أعطاه الله إياهم فهو محض فضله ورحمته، وما منعه إياهم، فبعدله وحكمته، فأفعال الله سبحانه وتعالى دائرة بين الفضل والعدل،
ولما كان الله تعالى قد نهى عباده عن الظلم، ويرضى لعباده المؤمنين، أن يتعاملوا بالفضل لا بالعدل، ورغبهم في ذلك، فقال تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (22) النور، وقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (195) البقرة ، وقال تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ) البقرة:177، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ». وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ .. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ)،
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يجازي الكافرين والمنافقين بالعدل، ولا يظلم ربك أحدا، فهو سبحانه وتعالى يتفضل على المؤمنين ويجازيهم بالفضل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (28)، (29) الحديد، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَقَالَ «وَمَا ذَاكَ». قَالُوا يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَفَلاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ مَرَّةً». قَالَ أَبُو صَالِحٍ فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»،
وقد تفضل الله تعالى على هذه الأمة الخاتمة، ففضل رسولها الخاتم صلى الله عليه وسلم: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ». وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «.. مَثَلِى وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى قَصْراً فَأَكْمَلَ بِنَاءَهُ وَأَحْسَنَ بُنْيَانَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَنَظَرَ النَّاسُ إِلَى الْقَصْرِ فَقَالُوا مَا أَحْسَنَ بُنْيَانَ هَذَا الْقَصْرِ لَوْ تَمَّتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ أَلاَ فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةَ أَلاَ فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةَ».
كما تفضل الله تعالى على هذه الأمة، فجعلها خير أمة، فقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران:110، وفي صحيح مسلم: (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ». وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى، وفي مسند أحمد: (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «وَأُعْطِيتُ هَذِهِ الآيَاتِ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي ». ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة: أن ضاعف لهم الأجر، ففي صحيح البخاري: (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ أَيْ رَبَّنَا أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلاً، قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لاَ، قَالَ فَهْوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ»،
أيها المسلمون
وفضل الله على عباده المسلمين كبير؛ ولا يمكن لنا أن نحصي فضل الله علينا، فمن فضل الله على عباده: أن يسَّر لهم العبادات والطاعات، وعظَّم لهم الأجور، قال تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (30) فاطر، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ)، ومن فضل الله علينا: أن جعل الأجر الكثير، والثواب العظيم، على العمل القليل، الذي يقوم به العبد خالصاً لله تعالى، وموافقاً لسُنّة النبي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-. فمن قرأ حرفا من كتاب الله، فله به حسنات، والحسنة بعشرة أمثالها، والله يُضاعف لمن يشاء. وفي سنن الترمذي: (أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ الم َرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ »، ومن فضل الله -تعالى- أن ضاعف الصلوات: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ صَلَّى عَلَىَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا»، ومن فضل الله علينا: أنه سبحانه يقبل توبة التائبين، ويعفو عن المسيئين: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». ومن فضل الله علينا أن من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة (أي ثمرها وجناها). ففي صحيح مسلم: (عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ قَالَ «جَنَاهَا». وأن من يسَّر على مُعسِرٍ يسّر الله له أمره في الدنيا والآخرة. ففي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، ومن فضله علينا: أن من كظم غيظاً دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، يُخيِّره من الحور العين، ففي سنن الترمذي: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»، ومن فضل الله علينا: أن الوضوء يغسل الخطايا والذنوب، ففي صحيح مسلم: (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ». ومن فضله تعالى أن جعل للمجالس كفارات: ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ»، ومن كريم فضله أن من بنى مسجداً لله بنى الله له مثله في الجنة. ففي الصحيحين: (أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا – قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ – يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ ، بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ»، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ»، ومن فضله تعالى: أن من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعةً تطوعاً ، بنى الله له بيتاً في الجنة. ففي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلاَّ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ»، ومن فضله -سبحانه- أن من صلى البردين دخل الجنة. وأن من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة. ومن فضله -جل جلاله- أن من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله حتى يُمسي. وأن من صلى قبل الظهر أربعا وبعدها أربعا حرمه الله على النار. ومن فضل الله وكرمه أن من أتى الجمعة مُبكراً؛ فأنصت واستمع وتأدب بآداب الجمعة؛ غفر الله له ما بينها وبين الجمعة الأُخرى، وزيادة ثلاثة أيام. وأن من وقع في ذنبٍ من الذنوب، فندم واستغفر الله تعالى، ثم صلى لله ركعتين، غفر الله له ذلك الذنب. وأن من صام من كل شهرٍ ثلاثة أيامٍ فقد صام الدهر كله، وأجر الصيام عند الله عظيم. ومن فضل الله علينا: أن من صام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وأن من أتبعه بصيام ستة أيامٍ من شهر شوال؛ فكأنما صام الدهر (أي السنة كلها). ومن صام يوم (عرفة) كفّر الله عنه السنة الماضية والباقية، وأن من صام يوم (عاشوراء) كفّر الله عنه السنة الماضية.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والمسلم لا يكون من أهل الجنة بمجرد عمله، بل بفضل الله تعالى وبرحمته، وإن كانت الأعمال من جملة الأسباب لدخول الجنة، ففي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لاَ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ)، ومن فضله سبحانه- أن من شهد الجنازة حتى تُدفن كان له قيراطان من الأجر والثواب، وكلُ قيراطٍ مثل الجبل العظيم. وأن من قال: “سُبحان الله العظيم وبحمده”، غُرست له بها نخلةٌ في الجنة. ومن قال: “بسم الله الذي لا يضُر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم”، ثلاث مراتٍ لم يضُره شيءٌ، ولم يُصبه فجأة بلاء. ومن سبّح الله -تعالى- بعد كل صلاةٍ مكتوبة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبّر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.
ومن أعظم فضائله -عز وجل- أن من كان آخر كلماته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة. ومن سأل الله الشهادة صادقا بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه. ومن سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار. ومن بات طاهرا بات في شعاره ملكٌ، فلم يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرا. ومن أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ومن لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوةٍ، غُفر له ما تقدم من ذنبه.
ولما كان فضل الله تعالى علينا واسعا، وكرمه عميما، فعلى كل مسلم أن يسأل الله تعالى ويدعوه أن (يعاملنا بفضله لا بعدله) فيسامحنا على ما يصدر منا بفضله، وبجوده وبكرمه، وأن لا يعاملنا بعدله، لأن الله تعالى إذا عامل العبد بالعدل أكبَّه في نار جهنم، لذلك يقول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]. فمن عامله الله بالعدل أدخله النار، ومن عامله بالفضل أدخله الجنة،
الدعاء