خطبة عن (سُبل النجاة)
يوليو 29, 2024خطبة عن (أنا الرحم، وهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ)
يوليو 31, 2024الخطبة الأولى (ذَلِكُم مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)1
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في كتاب الله العزيز: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (37) يوسف، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (113) النساء، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (282) البقرة،
إخوة الإسلام
قال الله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (151) البقرة، فالله تبارك وتعالى أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الوحيين: (الكتاب، والسنة المطهرة)، لنتعلم ونتفقه ونعمل، فالعلم من الله تعالى، يطلبه المؤمن منه سبحانه وحده، وذلك بالتعلم، مع الاخلاص، وصدق التوجه، والاستعانة به سبحانه، ومن خلال تلاوتنا وتدبرنا لبعض قصص القرآن الكريم، تعلمنا منها الكثير، فقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111).
ومن خلال تدارسنا لقصة (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ)، والتي يقول الله تعالى فيها: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (27) المائدة،.. إلى آخر الآيات، فقد علمنا ربنا منها: عِظَم جَرِيمَةِ الحَسَدِ، وما يترتب عليها من الآثار السَّيِّئة، فالحسد مرض عند النفوس الضعيفة، وهو يدفع صاحبه لإلحاق الأذى بالآخرين، ويَدْفَعُ صاحِبَه إلى سُوءِ الظَّنِّ، والتَّجَسُّسِ، والغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ، والتَّباغُضِ والتَّدابُر، وقد حَذَّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الحَسَدِ والبَغْضَاء، ففي مسند أحمد: (قال صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»، وكذلك الحَسَدُ يَدْفَعُ صاحِبَه إلى البَغْيِ والقَتْلِ؛
وعلمنا ربنا في هذه القصة: أنه (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) آل عمران: 92، فقربان قابيل وهابيل كان من أسباب القبول وعدمه: فقرَّب قابيل صبرة من أردإ زرعه، بينما قرب هابيل كبشًا سمينًا، من خيار ماشيته، وتعلمنا من هذه القصة: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ): فالإخلاص والتَّقوى سَبَبٌ لِقَبول الأعمال، ونَجاةُ العبد في الدنيا والآخرة. وتعلمنا من هذه القصة: بَيانُ عُقوبةِ المعاصي, وكيف أنها يُوَلِّدُ بَعْضُها بَعْضًا, فتهاوُنُ ابنِ آدمَ في حُدودِ اللهِ تعالى, وما اقْتَرَفَه من مَعَاصٍ؛ كان سببًا في عدمِ قَبولِ قُرْبانِه, ثم كان عَدَمُ قَبولِ قُربانِه, وقَبولُ قُربانِ أخيه سببًا في حَسَدِ أخيه, والإقدامِ على سَفْكِ دَمِه. وتعلمنا من هذه القصة: تعظيمُ حُرْمَةِ الدِّماء, فقد كانت في الشرائِعِ السَّالِفَة عَظِيمة, وازدادتْ في هذا الدِّين حُرْمَةً, قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في أعْظَمِ اجتماعٍ شَهِدَتْهُ البشرية، في حجة الوداع: “إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا, فِي شَهْرِكُمْ هَذَا, فِي بَلَدِكُمْ هَذَا” (رواه مسلم).
وعلمنا ربنا في هذه القصة: أن من سن شنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده: ففي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ». وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا»، وتعلمنا من هذه القصة: ضرورة تذكير من يتجرأ على حدود الله بعاقبة فعله، فقد قال لأخيه: (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، وهذا من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وتعلمنا من هذه القصة: العلامات التي يعرف بها حسن خاتمة العبد وسوؤها: فمن علامات حسن الخاتمة للعبد: أن يوفقه الله للطاعة، وأن يقبضه على الطاعة، ففي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَسَلَهُ». قِيلَ وَمَا عَسَلُهُ قَالَ «يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلاً صَالِحاً قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ»، ومن علامات سوء الخاتمة للعبد: أن يموت العبد على معصية، أو مصرا على معصيته.
أيها المسلمون
وفي قصة نبي الله موسى (عليه السلام) مع العبد الصالح (الخضر)، قال تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) (65): (70) الكهف، ..إلى آخر الآيات، فمما علمنا ربنا من خلال تدبرنا لأحداث هذه القصة: سعة علم الله -تعالى- ففي صحيح البخاري: (قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ)، وأن الله تعالى يعلم غيب السموات والأرض، وأنه فوق كل ذي علم عليمًا. وعلمنا ربنا من هذه القصة: أهمية الخروج في طلب العلم، وتحمل المشقة في طلبه، مع التواضع وخفض الجانب، وجواز طلب العلم ممن هو دونه فضلًا. وتعلمنا من هذه القصة: أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان: علم مكتسب: يدركه العبد بجهده واجتهاده، وعلم لدني: يهبه الله لمن يمن عليه من عباده، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، وتعلمنا من هذه القصة: التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول نبي الله موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، وتعلمنا من هذه القصة: تعليق الأمور المستقبلية بالمشيئة، وألا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول: {إن شاء الله}. وتعلمنا من هذه القصة: أهمية المرافقة في السفر، وأنه ليس كل واحد يستحق المرافقة، ويصلح لها، بل ينبغي اختيار الأفضل، وذلك لأن موسى عليه السلام قد اختار فتى من الفتيان، الذي أصبح نبيًّا، وهو يوشع عليه السلام.
وعلمنا ربنا في هذه القصة: أن خير الوالدين يتعدى إلى الأولاد، ولو كان بعد موتهمـا: ﴿ وكان أبوهما صالحًا ﴾. وأن شر الأولاد قد ينتقل إلى الوالدين: ﴿فخشينا أن يرهقهما﴾. وأن جزاء الإحسان الإحسان، حيث حملوهما بغير أجر، فقام الخضر بحيلة لحفظها. وعلمنا ربنا من هذه القصة: الاعتراف بمزايا الآخرين، وتتجلَّى في قول موسى عليه السلام: {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا}، وأنه ينبغي للإنسان أن يعتذر، ويعترف بخطئه إذا أخطأ، وهذا لا ينقص من فضله شيئًا، ومشروعية خدمة أهل الفضل والعلم، فقد خدم يوشع بن نون موسى في رحلتهما في طلب العلم. وتعلمنا من هذه القصة: أنه في إحياء الله تعالى للحوت المملح دليل محسوس على قدرة الله تعالى في إحياء الموتى والبعث بعد الموت، : وعلمنا ربنا من هذه القصة: صبر المعلم على تلميذه: وذلك في موقف موسى مع تلميذه حينما أخبره أنه نسي أن يخبره عن أمر الحوت، مع أن هذا كلفهما سفرًا طويلًا زائدًا، وظهر صبر المعلم أيضًا: في موقف الخضر حيث أعطاه أكثر من فرصة وصبر على احتجاجاته، وأن قبول عذر الناسي من شيم الصالحين، وتعلمنا من هذه القصة: أن الخضر بشر لا يعلم الغيب، بدليل أنه طلب من موسى أن يعرفه بنفسه، وأن العلم الذي يملكه الخضر يختلف عن كل علم، فهو علم خاص، آتاه الله للخضر عليه السلام. وتعلمنا: أنه ليس كل ما يظن الإنسان أنه قادر على فعله يفعله، فقد أخبر موسى الخضر أنه قادر على تحمل العلم الذي يملكه، ولكنه لم يصبر.
وعلمنا ربنا في هذه القصة: وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن لم تظهر بعض حكمته للعقول، وأن الله يفعل في ملكه ما يشاء، ويحكم في خلقه ما يريد، وتعلمنا: أن خرق السفينة، وقتل الغلام، وحبس كنز اليتيمين، هي رحمة من الله تعالى، فهي قصص تمثل ثلاثة أمور لابد أن تصادفنا في حياتنا الدنيا، فخرق السفينـة يمثل (فشل مشروعك أو خسارة لعملك أو أي شيء من هذا القبيل)، فقد يكون العيب الذى يحصل في حياتك هو سر نجاحك بعد ذلك، فالمنح تخرج من رحم المحن، ونجاتك من أمر، قد يدمر نجاحك: (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَـة غَصبَا)، وقتل الغلام فهو يمثل: فقد ما نحب؛ فقد يكون فقدك لما تحب هو رحمة لك، قال تعالى: (فَخَشِينَا أَن يُرهِقهمَا طُغيَاناً وَكُفرَا)، وبموته تحققت ثلاث رحمات، رحمة للغـلام ودخوله للجنة بلا ذنب، ورحمة لوالديه وإبدالهما بخير في البر بهما، ورحمة للمجتمع من الطغيان والظلم، أما حبس كنز اليتيمين: فهو يمثل تأخر الرزق، فقد يكون تأخر الوظيفـة أو الزواج أو الأطفال في حياتك خيراً لك ورحمة. (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبلُغَا أَشُدَّهُمَا) فقد كان اليتيمان عرضة للأطماع، وكانا في ضَعف عن تدبير أموالهما، فأراد المولى عز وجل أن يحفظه لهما حتى يكبراً. وهذه القصص تمثل ثلاثة محاور رئيسية من قصـص حياتنا اليومية، أراد الله أن يبين لنا بها أن الأصل في أمورنا كلها هو الرحمة، فلا نحزن على الظاهر، وننسى الرحمات المبطنة فيها من المولى عز وجل، فالمؤمن الحق هو من يكون عنده يقين بالله، وبحكمته فيما يحدث له في الحياة الدنيا من أمور وأحداث، فيكون أهدأ حالاً، فهو متيقن أن ما يختاره له رب العباد هو الأفضل والأصلح.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (ذَلِكُم مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) 1
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وعلمنا ربنا في هذه القصة: أن الإنسان مهما أوتي من العلم، فعليه أن يطلب المزيد: {وقل رب زدني علما} (طه:114)، وألا يعجب بعلمه: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء:85)، وتعلمنا في هذه القصة: أنه يجوز دفع الضر الأكبر بارتكاب الضرر الأقل، وهذا واضح من خلال فعل الخضر في الأحداث الثلاثة: خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار. وتعلمنا من هذه القصة: أن التأني في الأحكام، والتثبت في الأمور، ومحاولة معرفة العلل والأسباب، كل ذلك يؤدي إلى صحة الحكم، وسلامة القول والعمل. وتعلمنا من هذه القصة: أن من دأب العقلاء والصالحين الأدب مع الله تعالى في التعبير؛ فالخضر أضاف (خرق السفينة) إلى نفسه {فأردت أن أعيبها} (الكهف:79)، وأضاف الخير الذي فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله {فأراد ربك} (الكهف:82). وتعلمنا من هذه القصة: على الصاحب أن لا يفارق صاحبه، حتى يبين له الأسباب التي حملته على المفارقة: {قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} (الكهف:78)، وتعلمنا من هذه القصة: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر. وتعلمنا من هذه القصة: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها، فإن موسى أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر، وموسى لا يسعه السكوت عنها، في غير هذه الحال التي صحب فيها الخضر.
وعلمنا ربنا في هذه القصة: أن هذه القضايا التي أجراها الله على يد الخضر، هي قدر محض، أجراه الله، وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يُقَدِّر على العبد أموراً يكرهها جداً، وفيها صلاح لدينه، كما في قضية الغلام، أو هي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجاً من لطفه وكرمه ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة. وتعلمنا من هذه القصة: أن صلاح الآباء يُرى في الأبناء فقد حفظ الله تعالى الولدين بصلاح أبيهما ” وكان أبوهما صالحاً ” فأمر الخضر عليه السلام أن يرفعه إلى أن يكبرا فلا يأخذ الكنزَ أحدٌ وهما صغيران، ويظل بعيداً عن أعين الآخرين، حتى يشتد عودهما فيكون لهما. وحين علم الله أن الولد خلق مطبوعاً على الكفر، وانه سيسيئ إلى والديه المؤمنَيْن، ويجعل حياتهما جحيماً، أماته، وأبدلهما خيراً منه. وتعلمنا من هذه القصة: علو الهمة وقوة العزم في طلب العلم وتحصيله، والاستزادة منه، كما قال موسى عليه السلام “لا أبرح”. ولنا لقاء آخر إن شاء الله تعالى.
الدعاء