خطبة عن (استشعار عظمة الله)
أبريل 22, 2024خطبة عن (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)
أبريل 22, 2024الخطبة الأولى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (53) فصلت
إخوة الإسلام
لقد أمرنا الله تعالى بالتفكر والتدبر، وأثنى سبحانه على المتفكرين، بقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } آل عمرآن:191، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الرعد:3). فالتفكُّرَ في آيات الله ومخلوقاته عزَّ وجلَّ يكشفُ عن عظمة الخالق، ويجعل المرءَ يُقِرُّ بوحدانية الله عز وجل، ويتواضع لعظمته، ويحاسب نفسَه على أخطائها؛ فيزداد إيمانًا وصفاءً، ويُورث الحكمة، ويُحيي القلوب، ويُورث فيها الخوف والخشية من الله عز وجل، فما طالت فكرة امرئ إلا علم، وما علم امرؤ قطُّ إلا عمل، ولو تفكَّر الناس في عظمة الله عز وجل ما عصوه ابدا.
وليكن معلوما لدينا: أن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها ولا تؤدّي مفعولها إلا للقلوب الذاكرة الحية، القلوب المؤمنة، تلك التي تنظر في الكون بعين التأمل والتدبّر، تلك التي تُعمل بصائرها وأبصارها وأسماعها وعقولها، ولا تقف عند حدود النظر المشهود البادي للعيان، لتنتفع بآيات الله في الكون، قال تعالى: {الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَـاواتِ وَالأرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَـاطِلاً سُبحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]. أما الكفار، فهم عميُ البصائر غلف القلوب متحجّرو العقول، إنهم لا يتبصّرون الآيات وهم يبصرونها، ولا يفقهون حكمتها وهم يتقلّبون فيها، فأنى لهم أن ينتفعوا بها؟، قال تعالى: {يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَـافِلُونَ} [الروم:7]، وقال تعالى: {وَلَو فَتَحنَا عَلَيهِم بَابًا مِنَ السَّمَاء فَظَلٌّوا فِيهِ يَعرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكّرَت أَبصَـارُنَا بَل نَحنُ قَومٌ مَّسحُورُونَ} الحجر:14،15
واعلموا أن آيات الله تعالى نوعان: آياتٌ شرعية وهي ما جاءت به الرسل ومنها هذا القرآن الكريم فإنه آية، وآيات كونية وهي الدالة على كمال الله تبارك وتعالى في العلم والخلق، وكلِّ ما يتعلق بربوبيته، وهي ما يعجَز البشر عن مثلِه، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (52) الزمر، وقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (164) البقرة، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (99) الانعام، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (21) الروم، وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (42) الزمر،
والناظر في الكون وآفاقه يشعر بجلال الله وعظمته، فالكون كلّه خاضع لأمره، منقاد لتدبيره، شاهد بوحدانيته وعظمته، ناطق بآيات علمه وحكمته، دائم التسبيح بحمده، قال تعالى: {تُسَبّحُ لَهُ السَّمَـاواتُ السَّبعُ وَالأرضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفقَهُونَ تَسبِيحَهُم إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (53) فصلت، فهذا وعد من الله تعالى أنه سيكشف للناس عن آياته في نواحي السموات والأرض، وفي أنفسهم، فالله تعالى وعد عباده أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، وخفايا أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق، وأن هذا الدين هو الحق، وأن هذا الكتاب هو الحق،
وقد صدق الله وعده؛ فقد فُتحت للبشرية الآفاق، وتفتحت لهم مغاليق النفوس، فكشف الله لنا عن آياته في آفاق الكون، ومكنون النفس، خلال هذه القرون التي تلت هذا الوعد؛ وما يزال سبحانه يكشف لهم في كل يوم عن جديد، فمن آيات الله تعالى خلق الإنسان، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (الذاريات:21). وقد بين الله عزَّ وجلَّ أطوار خلق الإنسان، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 -14]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه،
وقد أثبت العلم الحديث صدق ما جاء في كتاب الله تعالى، وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فخلق الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة المتنوعة الكثيرة، لآيات تدهش العقول، وتحير الألباب، فهذا الانسان خرج من بطن أمه صغيرًا، ضعيفا، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته، حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض، ويتكسب ويجمع الأموال، وله فكرةٌ وغوْر، ودَهاءٌ ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة؛ كلٌ بحسبه. فسبحان من أقدرهم وسَيَّرهم وسخّرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكرة، والحسن والقبح، والغني والفقر، والسعادة والشقاوة.
وفي قَولِه تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ): فلا بُدَّ أنْ يُرِيَ اللهُ سُبحانَه أهلَ كلِّ قَرنٍ مِن الآياتِ ما يُبَيِّنُ لهم أنَّه اللهُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، وأنَّ رُسُلَه صادِقونَ، وفي ذلك طَرَفٌ مِن الإعجازِ بالإخبارِ عن الغَيبِ، وفيه لفت للأنظار لمعرفة الإله الحق، وإنارة القلوب بأدلَّة التوحيد، فالدعوة والحثّ على التفكير في ملكوت السموات والأرض، ليخلُصَ الإنسان إلى الاعتراف بوحدانية الله، وقدرته الباهرة، بعد أن يتأمَّل في خلقه المنظور، ويتدبَّر معاني كتابه المسطور؛ فيعرف خالقه ويحبَّه، ويحاذر أن يعصيه، والنظر في هذا الكون، وتتبُّع الإبداع الإلهي ودقَّته، وتصوُّر قدرة الله الَّتي تحرِّك نواميسه وتحكم موازينه، فنلمس بذلك جمال الطبيعة، وسحرها وغموضها، إلى جانب عظمتها الَّتي تنبئ عن عظمة مُبدِعها، فيكون لنا فيها الراحة والسرور من جهة، واليقين والإيمان من جهة أخرى.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إن الدعوة إلى النظر في هذا الكون هي دعوة للإنسان ليهتدي إلى مبدعه وخالقه، وليعرف حقائق الأشياء وخصائصها؛ لكي يتسنَّى له الانتفاع بما أودع الله فيها من قُوى، وكان من نتاج الاستجابة لهذه الدعوة الَّتي دعا إليها القرآن، أن أخذت العقول حريَّتها في النظر والتأمُّل، ونهض كلُّ إمام من أئمَّة العلم يبحث ويدرس ويجتهد في سائر العلوم والفنون، دون أن يجد في ظل الإسلام ما يعوِّق نشاطه الفكري، واستقلاله العقلي، وكانت حصيلة ذلك كلِّه، ظهور الحضارة العربية الإسلامية الرائعة، والَّتي كانت أساساً للنهضة الأوربية المعاصرة،
والتأمل في أرجاء هذا الكون الفسيح يقودنا إلى جمال الله، ويهدينا إلى عظمته ويُبصِّرنا بلطيف صُنعه، فكم في هذا الكون مِن جمال ساحِر، ومنظَر فاتن، وحُسْن باهر، وأجمل مِن كل ذلك الجَمال وأروع مِن جميع ذلك الحُسن أن ينظر أولو الألباب إلى جمال هذا الكون ورَوْعة إبداعه وعظيم صُنعه، ودقَّة إحكامه، وعميق انسجامه، فيؤمنون بأنَّ وراء هذا الجمال جمالاً أعظم وحُسنًا أكبر، ونورًا أكمل، وبهاءً أتم، وأنَّ جمال هذا الوجود بأسْره ما هو إلا قطرة مِن فيض جماله، وومضة من بديع كماله، إنَّ رؤية الجمال على حقيقته لا تكون إلا حينما ينظُر القلْبُ بنور الله، فتتكشَّف له الأشياءُ عن جواهرها الجميلة وروائعها البديعة، ويتذكَّر اللهَ كلَّما وقعَتْ عينه أو حسُّه على شيءٍ بديع، أو منظر حسن، فيحس بالصِّلة، ويشعر بالترابُط بيْن المبدع وما أبدع، والجميل وما جمَّل، والمحسِن وما أحسن، ويرى مِن وراء هذا الجمال جمالَ الله وجلاله وكماله.
الدعاء