خطبة عن قوله تعالى (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)
ديسمبر 15, 2018خطبة عن: وقفات مع حديث (الملك والساحر والغلام والراهب)
ديسمبر 22, 2018الخطبة الأولى : شؤم المعصية ( مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (81) البقرة
إخوة الاسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله ، نتدارسها ، ونتدبر معانيها ، ونتفهم مراميها ، ونعمل بما جاء فيها من أمر أو نهي . وبداية تعالوا بنا نقف على أقوال العلماء من أهل التأويل والتفسير فيما جاء في هذه الآية ، للوقوف على أقوالهم وآرائهم : قال الحسن والسدي : السيئة : الكبيرة من الكبائر ،وعن مجاهد : ( وأحاطت به خطيئته ) قال : بقلبه . وقال أبو هريرة ، والحسن : ( وأحاطت به خطيئته ) قالوا : أحاط به شركه . وقال الأعمش : ( وأحاطت به خطيئته ) قال : الذي يموت على خطايا من قبل أن يتوب . وقال مجاهد : ( وأحاطت به خطيئته ) الكبيرة الموجبة . وفي تفسير البغوي “معالم التنزيل”: قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هو الشِّرْكُ يَمُوتُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: السَّيِّئَةُ الْكَبِيرَةُ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهَا فَيَمُوتُ غَيْرَ تَائِبٍ، وقال الواحدي رحمه الله في تفسيره «الوسيط» : المؤمنون لا يدخلون في حكم هذه الآية؛ لأن الله تعالى أوعد بالخلود في النار من أحاطت به خطيئته، وتقدمت منه سيّئة وهي الشرك، والمؤمن وإن عمل الكبائر لم يوجد منه الشرك، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الذُّنُوبُ تُحِيطُ بالقلب كلما عمل ذَنْبًا ارْتَفَعَتْ حَتَّى تَغْشَى الْقَلْبَ، وهي الرين، وفي الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي: ﴿ بلى ﴾ أُعذِّب ﴿ مَنْ كسب سيئة ﴾ وهي الشِّرك ، ﴿ وأحاطت به خطيئته ﴾ : سدَّت عليه مسالك النَّجاة وهو أّنْ يموت على الشِّرك ﴿ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ الذين يُخلَّدون في النَّار. وفي التفسير الميسر : ( فحُكْمُ الله ثابت: أن من ارتكب الآثام حتى جَرَّته إلى الكفر، واستولت عليه ذنوبه مِن جميع جوانبه وهذا لا يكون إلا فيمن أشرك بالله، فالمشركون والكفار هم الذين يلازمون نار جهنم ملازمة دائمةً لا تنقطع. وفي الوسيط لطنطاوي : معنى الآية الكريمة: (ليس الأمر كما تدعون أيها اليهود، من أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، بل الحق أنكم ستخلدون فيها. فكل من كسب شركا مثلكم، واستولت عليه خطاياه، وأحاطت به كما يحيط السرادق بمن في داخله، ومات على ذلك دون أن يدخل الإيمان قلبه ويتوب إلى ربه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. فالآية الكريمة فيها إبطال لمدعاهم، وإثبات لما نفوه، على وجه يشملهم ويشمل جميع من يقول قولهم، ويكفر كفرهم.
هذا والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله كما قال جمهور المفسرين لورود الآثار عن السلف بذلك، وفائدة الإتيان بقوله تعالى (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) بعد ذلك، الإشعار بأن الخطيئة إذا أحاطت بصاحبها أخذت بمجامع قلبه فحرمته الإيمان، وأخذت بلسانه فمنعته عن أن ينطق به. وقوله تعالى فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بيان لما أعد لهم من عقوبات جزاء كفرهم وكذبهم على الله، فهم يوم القيامة سيكونون أصحابا للنار ملازمين لها على التأييد لإيثارهم في الحياة الدنيا ما يوردهم سعيرها، وهو الكفر وسوء الأفعال على ما يدخلهم الجنة وهو الإيمان وصالح الأعمال ). وقال السعدى : (بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد, يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم, وهو الحكم الذي لا حكم غيره, لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين، فقال: { بَلَى } أي: ليس الأمر كما ذكرتم, فإنه قول لا حقيقة له، ولكن { مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً }.. { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي: أحاطت بعاملها, فلم تدع له منفذا, وهذا لا يكون إلا الشرك, فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته. { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية, وهي حجة عليهم كما ترى, فإنها ظاهرة في الشرك,
أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا أن علماء التأويل والتفسير مختلفون في معنى الآية ، فالرأي الأول : أن المقصود بالآية هم المشركون والكفار ، الذين ماتوا على الكفر ،فهذه الآية هي في بيان حال المشركين : (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) يعني: سيئة شرك وخطيئة الشرك والكفر فهؤلاء هم المخلدون في النار، أما العاصي فهو تحت المشيئة كالزاني والسارق إذا لم يستحل ذلك، والعاق لوالديه، وشارب الخمر، والمرابي هؤلاء تحت المشيئة ،كما قال الله سبحانه وتعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) [النساء:48]. فالشرك والكفر لا يغفر إذا مات عليه الإنسان، والشرك الأكبر والكفر الأكبر صاحبه مخلد في النار، قال الله في حقهم:( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) [البقرة:167]، وقال في شأنهم سبحانه: ( يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) [المائدة:37]، أما الشرك الأصغر والكفر الأصغر فصاحبه على خطر ، فإن رجحت حسناته سلم من دخول النار ،وإذا عذب على قدر ما مات عليه من الشرك الأصغر والكفر الأصغر، وهكذا فأصحاب المعاصي إن عفا الله عنهم، وإلا عذبوا على قدر معاصيهم؛ تعذيباً مؤقتاً، ثم يخرجهم الله من النار إلى الجنة إذا كانوا ماتوا على التوحيد والإسلام، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري : (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ – رضى الله عنه – قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي رَهْطٍ ، فَقَالَ « أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلاَ تَسْرِقُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ، وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهْوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ » ، والرأي الآخر : أن المقصود بها هم الكفار ، وأيضا كل من أحاطت به خطيئته من الكبائر الموجبة لدخول النار ، ومات عليها ولم يتب منها ، وأحاطت به الخطايا ، فهذا وإن أخرج منها بعد ذلك ، فهو من المعذبين فيها . ورأي ثالث : أن الآية في أهل الكتاب من اليهود والنصارى : ويقول الله لهم : ( ليس الأمر كما تمنيتم ، ولا كما تشتهون ، بل الأمر : أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته ، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة ، بل جميع عمله سيئات ، فهذا من أهل النار ، والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة ) وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [ النساء : 123 ، 124 ] . وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذنوب المهلكة ، وفي مسند أحمد (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ». وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاَةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَاداً فَأَجَّجُوا نَاراً وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا ) .
أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا من الآية أنه من كان حبيس خطيئته ، ويعيش في إطارها ، ويتنفس في جوها ، ويحيا معها ولها . فعندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة ، عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم : (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (81) البقرة ، ثم يتبع هذا الشطر بالشطر المقابل من الحكم : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (82) البقرة ، فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح . .وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان . . وما أحوجنا – نحن الذين نقول أنا مسلمون – أن نستيقن هذه الحقيقة: أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح .فأما الذين يقولون :إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض , ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى ،وهي إقرار منهج الله في الأرض , وشريعته في الحياة ،وأخلاقه في المجتمع ،فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء ،وليس لهم من عذابه واق ،ولو تعلقوا بأماني كأماني اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها هذا البيان .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن المعاصي لها آثارٌ وخيمة وشؤم، فهي تزيل النعم وتحل النقم، قال علي بن أبي طالب : (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)، وقال الله سبحانه وتعالى : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [الشورى:30]، وقال الله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) [الأنفال:53]. ويقول سبحانه: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، ويقول سبحانه: ( فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء:160]، وروى أحمد عن ثوبان قال: قال رسول الله : « إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَلاَ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ » ، ومن شؤم المعصية أنها تمنع القطر وتسلِّط السلطان، وغير ذلك ، ففي سنن ابن ماجة (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ :« يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ». وقال مجاهد في قوله تعالى: (وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) [البقرة:159]، قال: “دواب الأرض تلعنهم، يقولون: يُمنع عنّا القطر بخطاياهم “، وشؤم المعصية هذا بلغ حتى البر والبحر، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية : شؤم المعصية ( مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن شؤم المعصية أنها تورث الذلّ وتُفسد العقل، وتورث الهم وتضعف الجوارح وتعمي البصيرة، وأعظم من ذلك كله تأثيرها على القلب، كما في سنن الترمذي بسند صحيح : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) » المطففين 14. وقال حذيفة : (القلب هكذا مثل الكف، فيذنب الذنب فينقبض منه، ثم يذنب الذنب فينقبض منه، حتى يختم عليه، فيسمع الخير فلا يجد له مساغًا)، وقال الحسن: “الذنب على الذنب ثم الذنب على الذنب حتى يغمر القلب فيموت، فإذا مات قلب الإنسان لم ينتفع به صاحبه”. يقول عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيْرٌ لنفسك عصيانُها
وأحسن من هذا قول الله عزّ وجل: ( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) [الأعراف:100]، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (إن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضةً في قلوب الخلق)، وقال سليمان التميمي: “إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلّته”. وقالت عائشة رضي الله عنها: (أقلّوا الذنوب فإنكم لن تلقوا الله عزّ وجل بشيءٍ أفضل من قلّة الذنوب)، وقال بلال بن سعد: “لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت”، وقال بشر: “لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عزّ وجل”، وقال وهيب بن الورد: “اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك”. فالذنب دَينٌ في ذمة فاعله لا بد من أدائه، قال أبو الدرداء : (البر لا يبلى، والإثم لا ينسى)، وقال الفضيل بن عياض: “ما عملت ذنبًا إلا وجدته في خُلُق زوجتي ودابتي”، ونظر أحد العبّاد إلى صبيٍ فتأمل محاسنه، فأُتي في منامه وقيل له: “لتجدنّ غِبّها بعد أربعين سنة”، وقال ابن سيرين حين ركبه الدين واغتمّ لذلك: “إني لأعرف هذا الغم بذنبٍ أصبته منذ أربعين سنة”، وقال أحد السلف: “نسيتُ القرآن بذنبٍ عملته منذ أربعين سنة”. ومن أضرار الذنوب والمعاصي أنها تُكْسِلُ صاحبها عن العبادة، كما قال رجلٌ للحسن: إني أبيتُ معافى وأحب قيام الليل وأعدّ طهوري فما بالي لا أقوم؟! فقال: ذنوبك قيّدتك. وقال أبو سليمان الداراني: “لا تفوتُ أحدٌ صلاة الجماعة إلا بذنب”؛ لذا فإن المؤمن العاقل يجتهد في البعد عن الذنوب، ويهجر أهل الذنوب والمعاصي، فإن شؤم معصيتهم يبلغه.
الدعاء