خطبة عن (الرحمن الرحيم)
سبتمبر 30, 2024خطبة عن (سن الأربعين) مختصرة
سبتمبر 30, 2024الخطبة الأولى (عَلَّمَنِي رَبِّي)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (151) البقرة، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (282) البقرة، وقال يوسف: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..) يوسف:37،
إخوة الإسلام
إن الله تبارك وتعالى أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الوحيين: (الكتاب، والسنة المطهرة)، لنهتدي ولنتعلم، وقص علينا قصص السابقين، لنستلهم منها الدروس والعبر، فقال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111).
ومن خلال تدارسنا لقصة (ذي القرنين)، والتي يقول الله تعالى فيها: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (83): (85) الكهف.. الآيات، فمما علمني ربي من أحداث القصة: أن الله تعالى مطلع على كل شيء، قال تعالى: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف:91]، وأن كل من في الأرض مصيره إلى الزوال والفناء، قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف:98] وتعلمت: الأخذ بالأسباب، والعمل وفق سنة الله تعالى في الكون من الجد والعمل، وأنه على قدر بذل الجهد يكون الفوز، قال تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف:84،85]، وتعلمنا: أن العقوبات تطهر المؤمن، ولا تطهر الكافر، قال تعالى: “ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً”، فدل ذلك على أن العقوبات لا تطهر الكافرين، وبينت القصة: إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ، قال ابن كثير: (وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ) وقد تعلمت من القصة أيضا: أنه على الداعي أن يكون عالمًا بالشيء قبل أن يدعو إليه، فقد سأل المشركون الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن خبر ذي القرنين، فقد قال تعالى: «وَيَسأَلونَكَ عَن ذِي القَرنَينِ»، وكان سؤالهم تحدّيًا له، فهذا سؤالٌ لا يجيبه إلا نبي، فأنزل الله تعالى: «قُل سَأَتلو عَلَيكُم مِنهُ ذِكرًا».
ومما علمني ربي: أنه كلما كان البناء قويًّا، كان عمرُه أطولَ وأدوم، ولا يستطيع أحد أن ينقضه؛ فذو القَرنين بنى ما بين الجبَلين من حديد، ثم أذاب عليه النحاس؛ ليَزيدَه قوة وصلابة، فلما أراد القوم المفسدون أن يهدموه، فشِلوا؛ قال تعالى: «فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا» (الكهف:97)، فعجَزوا عن أن يعتلوه؛ لارتفاعِه، أو يثقُبوه؛ لصلابتِه. وعلمني ربي: أنه على العبد المسلم الاعتراف بفضل الله، فمهما يبلُغ الإنسان مِن مُلك أو سلطان، فلا يجوز أن يَشغَله ذلك عن شُكر نعمة الله، والإقرار بمنِّه وكرَمِه عليه، كما فعل ذو القرنين؛ قال الله: «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» (الكهف:98). وتعلمت من القصة: العفَّة والقناعة: فلما عُرِضَ على (ذي القرنين ) أن يأخذ خَراجًا في مقابل أن يبنيَ لهم السد، عَفَّ عن مالهم؛ طمعًا فيما أعطاه الله له؛ قالوا: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا» (الكهف:94،95). وعلمني ربي من القصة: التوكل على الله في كل الأمور، وشكر المنعم، قال: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف:98]، وتعلمت: وجوب العمل على صد وعزل أهل الفساد، مثلما فعل ذو القرنين، حينما قام ببناء سد بين القوم المستضعفين وبين يأجوج ومأجوج ،
وعلمني ربي من قصة (ذي القرنين): أن سلوك ذي القرنين كان سلوكًا ربانيًّا؛ حيث استطاع أن يستخدم كل الوسائل التي سخرها الله له، في سبيل الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج:41]. ويتجلى ذلك في تحرُّكاته جهة المغرب والمشرق، وتحرُّكاته بين السدين، فكان تغييره تغييرًا فيه إصلاح وحفظٌ، وأمنٌ وطاعة. وقد تحقَّقت فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمُر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، وعدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين، والأولياء العادلين العالمين؛ حيث وافَق مرضاة الله في معاملة كل أحد بما يليق بحاله، وأنه كان حازماً، وقد انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ فمن الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع (فَأَتْبَعَ سَبَباً)، وجال في الأرض شرقا وغربا.
وتعلمت من القصة: أن ذا القرنين بنى في نفوسنا طموحاً عالياً، وهمةً شامخة، ورسم لنا صورة مشرقة في سماء التفوق، والجد والعزم، والتنافس والتصارع، من أجل السيادة والغلبة، والوصول إلى مفاصل التغيير والتأثير، وهي صورة المؤمن القوي، ويحطم في المقابل صور الهزيمة والخمول والكسل، التي تعشعش في نفوس كثير ممن ضعفت همتهم، وخارت عزائمهم.
وعلمني ربي: أن أهل الصلاح أصحاب رسالة، يغرسون بذور الخير أينما حَلُّوا، ابتغاء وجه الله، ودون انتظار مقابل، أو عوض دنيوي من الناس، فإن ذا القرنين الذي أيده الله قال: (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي بالرجال وعمل الأبدان، والآلة التي أبني بها السد (الردم)، وقد علم القوم الايجابية وعدم السلبية، ودعاهم إلى المشاركة، وهذا بداية النجاح في العمل، فإن القوم لو جمعوا له خرجًا، لم يعنه أحد، ولتركوه يبني، فكان عونهم أسرع في إنجاز العمل، وإنجاح المشروع.
وعلمتني القصة: أنهم لما ذكروا لذي القرنين السبب الداعي لبناء السد، وهو: إفساد القوم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي: خير مما تبذلون لي، وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) أي: مانعا من عبورهم عليكم.
فتعلمنا: أنه إذا أردت الإعانة، فعليك أن تُعين معونة لا تحوج الذي تعينه إلى أن تُعينه كل وقت، بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأن تعلّمه أنْ يعمل بنفسه؛ لذا يقولون: (لا تُعطِني سمكة، ولكن علِّمني كيف أصطاد)، وهكذا تكون الإعانة مستمرة دائمة، وعلمتني القصة: أن تغيير الواقع ليس بالمستحيل: فإذا كان هناك جيل قادر على الأخذ بزمام المبادرة، مع تقدير الأمور قدرها، في ضوء المعطيات والأدوات المتاحة، فليس بعد ذلك إلا عون الله وتوفيقه، طالما أن نية الإصلاح متحققة، فهؤلاء القوم المستضعفون الذين كانوا دون السدين، لم يقدروا على تغيير واقعهم المرير، الذي ذاقوا فيه الويل والثبور، على يد يأجوج ومأجوج، فقد ظلوا ينتظرون المخلص لهم من شرهم، حتى جاءهم ذو القرنين،
ومما علمني ربي: مشروعية حبس أهل الفساد، وإيقاف فسادهم، لقد قالوا: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف:94]، قال القرطبي: (في هذه الآية دليلٌ على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدون، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربًا ويحبسون، كما فعل عمر بن الطاب رضي الله عنه.
وفي القصة: مشروعية الجُعَالة للقيام بالمهام من الأعمال، قال تعالى: (قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف:94]، ودليل الجعالة من السنة النبوية، ما جاء في صحيح البخاري: (عن أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ)، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا).
وعلمتني القصة: أن ذي القرنين نموذجٌ رائعٌ، ومثالٌ واقعيٌّ، للقائدِ الراشدِ، والحاكمِ العادلِ، والفاتحِ المؤيَّد، الذي يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب؛ فيبلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ فلا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلةً للكسب المادي، واستغلال الأفراد، وابتزاز الشعوب، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه، إنما ينشر العدل في كل مكان يحلُّ به، ويساعد المتخلفين المستضعفين، ويدرأ عنهم العدوان، دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التغيير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق.
وتعلمنا: أن القائد القوي الناجح في قيادته: هو الذي تنبع قوته من إيمانه بالله عز وجل، فمنه يستمد القوة، ومنه يستمد العون، وعليه يتوكل، فهو يجعل من الله عز وجل مركزًا لحياته، فإيمانه بالله سبحانه هو الذي يرسم له منهجه في العمل، وتعامله مع الآخرين، فالقائد المسلم صاحب رسالة في هذه الحياة، نابعة من منهج الله عز وجل، ومن خلال قيادته ،يعمل على تحقيقها، على أسس وضعها الله عز وجل لصالح البشرية، وعمارة الأرض. ومن الملاحظ في القصة: أن كلمة (ربي) تكررت على لسان ذي القرنين: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) وقال: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)، وقال: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) وقال: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)، وهذا يدل على إننا بحاجة دائما لأن نتذكر أننا مهما بلغنا في العلم والمجد والعلو مبلغاً رفيعًا، فإننا لا نخرج عن طور عبوديتنا لله تعالى، والافتقار إليه، بل ما كان ذلك لنا إلا بتوفيق الله، ومعونته ورحمته، وكلما ازداد العبد رفعةً ونجاحًا، ازدادت مِنّة الله عليه، فازداد انكساراً وذلةً لله تعالى، وعبَّد النفوس معه لله تعالى، وهي علاقة مطردة، متى ما اختلت، خُشي على ذلك المرء أن يكون قد استُدرج، قال ابن القيم: ” فَإِن تَمام الْعُبُودِيَّة هُوَ بتكميل مقَام الذل والانقياد، وأكمل الْخلق عبوديةً، أكملهم ذلًا لله، وانقيادًا وَطَاعَةً”،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (عَلَّمَنِي رَبِّي)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومما علمني ربي: أنه على القائد أن يكون أمينا: فالأمانة صفة أساسية، يجب أن تتوفر في القائد الناجح، فلقد وُكِل إلى ذي القرنين أمانة التعامل والتصرف مع القوم، عند مغرب الشمس من قِبَل الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا لقدرته على تحمل المسئولية، وأمانة ما وكل إليه قال الله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) [الكهف: 86]. كذلك عندما شرع في بناء الردم، كان أمينًا على ما في أيدي القوم من ثروات، فعندما عرضوا عليه جَعْلَ خَرْجٍ له، نظير إقامته سدًّا لهم؛ لم يطمع فيما بأيديهم، ولكن قال معقبًا: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ). وكان أمينًا على ما في أراضيهم من ثروات ومعادن، فرغم أن معه الجند الكثير؛ إلا أنه أرادهم أن يكتشفوا بأنفسهم ما في أرضهم من ثروات معدنية وخامات فقال لهم: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) [الكهف:96]، وقال: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) [الكهف:96]، وكأنه يقول لهم: اذهبوا إلى أرضكم، واكتشفوا ما في باطنها من ثروات ومعادن، ولا يطَّلع عليها أحدٌ غيركم.
وكان أمينًا على أرواحهم، فشرع على الفور يقيم لهم ردمًا يحميهم من قوم يأجوج ومأجوج ،وذلك بمعاونتهم له بقوة، تلك هي الأمانة، والتي هي روح القيادة والإدارة وأساسها، والتي يرضاها الله عز وجل فيمن يلي أمر الجماعة. قال ابن العربي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلِكَ فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفي عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمُ الَّتِي تَجْمَعُهَا خِزَانَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكَلَتْهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَذَتْهَا الْمُؤَنُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَحْذَرُونَهُ مِنْ عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَالَ: لَسْتُ أَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إِلَيْكُمْ.” فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ” أَيِ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الغلم والْأَمْوَالَ عِنْدِي، وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ، وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيَعُودُ بِالْأَجْرِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بخدمة الأبدان أولى. وتعلمنا: أنه لَا يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ، فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ، الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بالعدل لا بالاستيثار، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالْأَمْرِ.
وعلمني ربي من القصة: أن ذا القرنين لما جمع إلى جانب (العلم النافع والخبرة الدقيقة والمهارة الفائقة والإمكانات الهائلة؛ التواضعَ الرفيعَ والإيمانَ العميقَ والنفْسَ الراضية العفيفةَ، والأياديَ السخيةَ النظيفةَ، والأريحية والشَّهامة)، ومع ذلك قال: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، فالقائد عليه التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته، وتروي لنا كتب السيرة: أن أبا بكر كان رجلا تاجرا، فكان يغدو كل يوم إلى السوق، يحمل الأثواب على كتفيه، فيبيع ويشتري، فلقيه عمر وأبو عبيدة عند السوق، فسألاه: أين تريد يا خليفة رسول الله؟، فرد أبو بكر بتلقائية: السوق. فقالا له: ما هذا الذي تصنعه وقد وليت أمر المسلمين؟، فأجاب أبو بكر: فمن أين يأكل عيالي؟، فقال له عمر وأبو عبيدة: سنفرض لك راتبا لتتفرغ لأمر المسلمين. وهذا مما علمني ربي.
الدعاء