خطبة عن (المجاهدين والمرابطين: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ)
أكتوبر 21, 2023خطبة حول قوله تعالى ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وقوله تعالى ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ )
أكتوبر 24, 2023الخطبة الأولى (عِبَادٌ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا) (4)، (5) الإسراء
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن: (أُولي البَأْس الشَدِيد)، فقد ذكر القرآن الكريم أن ملكة سبأ (بلقيس بنت الهدهاد) عندما استشارت جندها في الأمر مع نبي الله سليمان (عليه السلام): (قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (32)، (33) النمل، ومنذ زمانها وإلى هذا الزمان الكائن اليوم، ونحن نكتشف أولي البأس الشديد مع طلوع وظهور الشدائد والنوازل.. فلكل زمان (رجال أولو بأس شديد)، يظهرون عند الشدائد والنوازل والمحن، ولو تأملنا النص القرآني من خلال الأيام التي نعيشها اليوم في المعركة الدائرة بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وبين المسلمين المجاهدين من أبناء فلسطين وبين اليهود الغاصبين أولياء الشيطان، لوجدنا أن القرآن الكريم ذكر البأس في محل ذكر اليهود، وذلك عندما بعث عليهم (عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، فأخرجوهم من بيت المقدس، وتم سبيهم وقتلهم وتشريدهم، فقال تعالى في سورة الإسراء: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا) (5) الإسراء، فقد تجمع اليهود في هذا الكيان الغاصب في دولة الاحتلال، وقد وعد الله أن يتم إجلاؤهم، وأن يبعث عليهم من يسوء وجوههم من (أُولي البَأْس الشَدِيد)، من أبطال غزة الذين يعملون على زلزلة وزحزحة هذا الكيان الغاصب، واقتلاعه من جذوره، فقال الله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا) (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (4): (7) الإسراء،
أيها المسلمون
كما بين الله تعالى في كتابه العزيز أن اليهود بأسهم بينهم شديد، فقال تعالى: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) الحشر (14)، أي ترى اليهود مجتمعين، فتحسبهم مؤتلفين ومتوحدين، وهم ليسوا كذلك في الحقيقة، فهم مختلفون غاية الاختلاف، وبين سبحانه وتعالى العداوة والبغضاء بين الفرق اليهودية في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} المائدة (64)،
فقوله تعالى: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) الحشر (14)، فهم لا يقاتلون المسلمين إلا من وراء الخنادق والحصون، والجدار العازل، أو من داخل الحصون والدبابات والطائرات والمدرعات المحصنة، ولا يقاتلونكم مجتمعين في موطن من المواطن إلا في قرى محصنة بالخنادق وغيرها، أو يقاتلونكم من وراء الجدران التي يتسترون بها، لأنهم يعجزون عن مبارزتكم، وعن مواجهتكم وجها لوجه، لفرط رهبتهم منكم.. قال ابن كثير في تفسيره: (يعنى أنهم في جبنهم وهلعهم، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام، بالمبارزة والمقاتلة، بل إما في حصون، أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلونكم للدفع عنهم ضرورة) ،وما دام الأمر كذلك فلا تبالوا بهم- أيها المؤمنون-، بل أغلظوا عليهم، وجاهدوهم بكل قوة وجسارة.
وقوله تعالى: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) الحشر (14)، فهذه الآية الكريمة تكشف عن الطبيعة النفسية لليهود, فقد برع اليهود في التعصب الأعمى ضد كل من سواهم, بل ضد الإنسانية بصفة عامة, كما برعوا في تدبير المؤامرات, ونقض المعاهدات, وتزييف التاريخ, وتحريف الدين, والافتراء على الله, وعلى كتبه، وأنبيائه ورسله, وفي سلب الأراضي من أهلها, وفي تربية ناشئتهم على الاستعلاء الكاذب فوق الخلق. ولذلك كان خوفهم من الأمم المحيطة بهم شعوراً مسيطراً دوماً عليهم، فعاشوا عبر التاريخ وراء القُرى المحصنة, والجُدران المرتفعة, والموانع والعوائق المتعددة, أو في أحياء مغلقة. وتاريخ اليهود يؤكد صدق القرآن الكريم بهذه الإشارة الربانية الصادعة: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُر), وقد أفاض أهل العلم في بيان طبيعة القرى المحصنة لليهود عبر التاريخ, والتي كان من أحدثها (خط بارليف) الذي أقامته إسرائيل بعد انتصارها في حرب 1967, والجدار العازل الذي شرعت في إقامته سنة 2003، بعد أن سيطرت على أغلب الأراضي الفلسطينية, وامتلكت من السلاح والعتاد ما لا يعلمه إلا الله, فكان ذلك أكبر دليل على الخوف المسيطر على نفوس اليهود والذي لا ينفك عنهم حتى ولو انتصروا على عدوهم.
وينبغي أن نلتفت إلى أن الآية الكريمة لم تنف أن يكون اليهود من المقاتلين، أو أن يمتلكوا القوة التي تمكنهم من مهاجمة غيرهم من الأمم، أو أن يكونوا ذوي مكر ودهاء, فقول الله (لا يقاتلونكم) فيه دلالة على وقوع القتال بين فريقين، كل منهما ينشد الانتصار على الآخر ويسعي في طلب الآخر, بل إن الله يبين في موضع آخر أن اليهود سيتفوقون على المسلمين ويكونون أكثر نفيرا، قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} الإسراء6, فهذه الآية ما نزلت لتتهم اليهود بأنهم ليسوا أهل قتال ولكن لتبين الطبيعة النفسية لهم في أثناء قتالهم, وأنها طبيعة واهية، تخاف الموت، وتحرص علي الحياة, فلا ينبغي للمسلم أن يهابها في اثناء القتال، حتى لو كانت الغلبة في العدة والعتاد لصالحهم.
ومما يلفت النظر في هذه الآية الكريمة: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ), أن ما من قرية مُحصنة إلا والجُدران عامل أساسي في تحصينها, قال القرطبي: (أي محصنة بالحيطان والدور, يظنون أنها تمنعهم منكم) , وقد رأينا كيف أحاطوا قراهم بخط (بارليف) ليفصلهم عن المصريين, ثم أحاطوها بالجدار العازل ليفصلهم عن الفلسطينيين , فالجدران هي جزء من تحصينهم الأساسي,
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (عِبَاد أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ): (فأُولُو البَأْس الشَدِيد): هذا الوصف ليس قاصرا على الرجال من دون النساء، فهناك نساء وأمهات صابرات ومرابطات، بأسهن شديد، ولهن الدور الأكبر في نصرة الاسلام، وتحرير الأقصى، وذلك عبر غرس قيم البأس الشديد في نفوس أولادهن، وإعدادهم للمعارك، وهن جميعا يتذكرن الخنساء التي ربت أبناءها أفضل تربية، فكانت تحث أبناءها الأربعة على الجهاد دفاعا عن الإسلام، وقد رافقتهم مع الجيش، وهى تقول لهم: ” إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتهم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثوب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فيقول سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران (200)، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رسيسها تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة ، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، فتقدموا واحدا بعد واحد، ينشدون أراجيز، يذكرون فيها وصية أمهم العجوز، حتى قتلوا عن آخرهم، فلما وصل للخنساء نبأ وفاة أبنائها ، لم تفزع ولم تحزن عليهم، ولكنها صبرت واحتسبت، وقالت قولتها المعروفة (الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).
الدعاء