خطبة عن حديث (عَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ)
نوفمبر 12, 2023خطبة عن (لا تكن سببا في فتنة المؤمنين)
نوفمبر 12, 2023الخطبة الأولى (غرور العلم وطغيانه)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (83) غافر، وقال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (78) القصص ،وقال تعالى: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (49) الزمر
إخوة الإسلام
الغرور خلق ذميم، ومرض خطير، وصفة من صفات المتكبرين، وهذا الداء يدل على نقصان الفطنة، وطمس نور العقل والبصيرة ، فينخدع العبد بما آتاه الله من أسباب القوة والجمال، وحطام الدنيا الفاني ؛ فيغتر، ويتعالى على الناس ويتكبر، وقد يتكبر على ربه وخالقه، فلا يقوم بواجب العبودية، بل يسير وراء شهواته ونزواته، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:6-7 )، والأخلاق الذميمة السيئة هي معاول هدم وتدمير للأفراد والمجتمعات، فكلما ابتعد الافراد والمجتمعات عن مكارم الأخلاق، وشاعت فيهم مساوئ الأخلاق، وتعرضت هذه المجتمعات للتفكك والانهيار، مما يهدد وجودها واستمرارها.
ومن صوَر الغرور: الاغترار بالعلم واتّساع المعارف، ممّا يثير في البعض الزهو والتيه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحذَّرنا من الغرور، ففي صحيح ابن حبان: قيل: (يا رسول الله ما كانت صحيفة إبراهيم قال كانت أمثالا كلها أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم)، فللعلم طغيان، كما أن للغنى والجاه والرياسة طغياناً، ولطغيان العلم علامات: منها: احتكار الآراء والأقوال والأفهام؛ فلا يرى المغرور رأيا إلا رأيه، ولا قولا إلا قوله، ولا فهما إلا فهمه، فهو على مبدإ فرعون: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) غافر (29)، ومن علامات طغيان العلم: اعتبار قوله صواباً لا يحتمل الخطأ، وقول غيره خطأ لا يحتمل الصواب، ومنها: احتقار الآخرين ـ وبخاصة أقرانه من أهل العلم، ومنها: الاستخفاف بعقول الآخرين وبأعمالهم واجتهاداتهم وأنهم ليسوا على شيء، ومنها: سرعة الغضب عندما يُعقب عليه بقول أو فهم مغاير لقوله أو فهمه، بغض النظر عن مدى صحة التعقيب من عدمه، منها: أنه لا يقبل نصحاً ولا توجيهاً ولا إرشاداً من أحدٍ، ومنها: أنه يجد في نفسه حرجاً من الرجوع إلى الحق فيما أخطأ فيه، والاستمرار في الخطأ، والتمادي فيه، والشعور بنشوة الاستعلاء على عباد الله.
أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن الغرب قد اتجه في القرون المتأخرة إلى تحصيل المعارف عن الكون والإنسان ،فاستكشفوا: الأرض وباطنها، والفضاء وأرجاءه، والبحار وأعماقها، ووقفوا على سنن التسخير والقوانين التي أودعها الله في الكون، وبرزوا: في الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، والطب، والهندسة، وغيرها، وفجروا الذرة، وغاصوا في أسرار الخلايا والجينات، ودرسوا خبايا جسم الإنسان وخفاياه، وأحدثوا اكتشافات واختراعات مذهلة، بهرت العقول، وغيَّرت مجرى حياة البشر في جميع الميادين،
ولكن: نتج عن هذا التفوق العلمي مشكلتان أساسيتان: الأولى: أدى الانفصام بين العلم والأخلاق إلى استخدام هذا العلم فيما يُهلِك الإنسان والبشرية والحياة؛ كالأسلحة الفتاكة، والتصرف الجنوني في الخلايا والجينات لتغيير خلق الله، فنتج عن ذلك الأمراض الغريبة؛ التي تهدد النوع البشري، والكون كله. والثانية: الاغترار بالعلم، فقد بلغ الغرب حدًّا متقدمًا من الغرور والغطرسة، فصرح معه: (أن الإنسان قد قتل الله وحل محله)؛ أي: أصبح قادرًا على صنع المعجزات بنفسه، فلم يعد في حاجة إلى فكرة: الإله، والدين، والعقائد السماوية.
فأصبح الغرب ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق: 6]، فهو شديد الافتخار والاغترار بإنجازاته، وهذه الإنجازات لا ينكرها أحد، بل امتد نفعها إلى البشرية كلها، ولكن المشكلة تكمن في غرور الغربيين بذلك، حتى أنساهم خالقهم وحدود آدميتهم، لاعتقادهم أن العلم الذي يمتلكونه يُغنِيهم عن كل شيء؛ ويحل جميع المشكلات، فلا يترك موضعًا لدين ولا وحي ولا نبوة،
وهكذا، فالغرب أبدع في الماديات، ولكنه أفلس في الروحانيات، وعظَّم من شأن العقل، وأهمل القلب، واعتنى بجسم الإنسان، وأهال التراب على الروح، بل ازدراها، وقلَّل من شأنها، فجلب الشقاء لنفسه، وكان قدوة سيئة لبقية لبلدان والشعوب، وأضحت بلاد الازدهار هي مَرْتَع الانتحار، وانتشرت هناك العيادات النفسية، وتكاثرت بشكل عجيب، عساها تُخلص الإنسان من نفسه بعد سيطرة الأمراض النفسية، والقلق، والاضطرابات، والانهيارات العصبية عليه، رغم علمه، وثرائه، ورغد عيشه.
فحال الغرب المغرور بعلمه ينطبق عليه قول الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ [غافر: 83]. قال ابن كثير رحمه الله: “لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم”.
فالعلم بغير إيمان فتنة وغرور، فتنة تعمي وتطغي، فهذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور؛ إذ يحسب صاحبه أنه يتحكَّم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها، وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها، وهي موجودة في هذا الكون، ولا سلطان له عليها، بل لا إحاطة له بها، بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة، وبذلك ينتفخ، فيأخذ أكثر من حقيقته وحجمه، ويستخفه علمه وينسى جهله، ولو قاس ما يجهل إلى ما يعلم، وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره – لرجع من كبريائه، وخفَّف من فرحه الذي يستخفه.
تلك هي المشكلة، الاغترار بالعلم، الذي دفعهم إلى الاستغناء عن الله تعالى، ورفض هَدْي السماء، حتى في المجالات التي لم يحل فيها هذا العلم أية مشكلة، وعلى رأسها مجال الإنسان ذاته: عواطفه وأفكاره، ورُوحه، وحياته الأسرية والاجتماعية والسياسية، إنها لعنة التمرد على الله تعالى، ومخالفة الفطرة السوية، والإخلاد إلى الأرض، فال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175 – 176]. فالغرب أبدع في البحث والإنتاج المتنوع، واخترع ورأى من خلال الدرس والبحث والتفكير آيات الله في الآفاق، ولكن ذلك أبعده عن منهج الله ودينه، بدل أن يقرِّبه منه، فانسلخ عن الدلائل البيِّنات التي أبصرها في الآفاق والأنفس، وانحرف عن الفطرة السوية، وألتصق بالأرض بدل أن يرتفع إلى هَدْي السماء، ففقَد راحة البال، وسكون النفس، وسعادة الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، فما فائدة هذا العلم الذي يسبر أغوار الكون، ويتعرف على سننه، ويُسخره للبشر، ولكنه يقودهم إلى الكفر والجحود، ويجرئهم على الدين، ويقطع صلتهم بالسماء؛ لأنه “لا يؤمن إلا بما تدركه الحواس”
وهكذا فالاغترار بالعلم يدعو إلى الانحراف عن الفطرة، والنكوص عن الآيات التي يضع الانسان يده عليها كلَّ يوم، وفي كل المجالات، بل ينسلخ منها؛ ليلتصق بالأرض، ويتَّبع هواه، ويصر على ذلك، رغم ما يراه من تبعات وخيمة تملأ الأرجاء، التي جلب لها الرخاء المادي، ووفَّر لها الحياة الميسرة المزدهرة، فقد وجد الناس في الغرب جميع المتع، ورفلوا في أعطاف النعيم الحسي، ولكنهم فاقدون لراحة البال، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، فطلبوا ذلك في العيادات النفسية المنتشرة عندهم انتشارًا واسعًا، فلم تُغنِ عنهم شيئًا؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وجلهم يشتكي: الكآبة، والانعزال، والشعور بالعدمية، رغم أنهم أباحوا لأنفسهم كل شيء، وما عادوا يعرفون محرمًا ولا مكروهًا، ولا ضوابط أخلاقية؛ لأن العلم الذي يُدْلُون به زَعَم لهم أنه يحل جميع المشكلات، ويجيب عن كل الأسئلة، وهم يتأكدون يومًا بعد يوم أن هذا مجرد دعوى عريضة يثبت الواقع تهافتها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( غرور العلم وطغيانه )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن أحد الأسباب الباعثة على تمكن (الاغترار بالعلم) من النفوس: هو الجهل، نعم الجهل بحقيقة النفس، والجهل بحقيقة الحياة، والجهل بصفات الرب جل وعلا، فإذا جهل الإنسان كل هذه المعاني رفع نفسه فوق قدرها، وترفع على الخلق، وتكبر على الله، فصار من المغرورين. فمن أعظم الفتن: أن ترى المولى عز وجل يُتابع على الانسان نعمه وهو مقيم على ما يكره ، فيغفل عن بالتوبة ، حتى يهجم عليه الأجل، فيأُخذه على أسوأ أحواله، وقال تعالى في هؤلاء: ( وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور). وأعظم الناس غرورا بربه من إذا مسه الله برحمة منه وفضل، ظن أن هذا من محبة الله له، وفي معجم الطبراني: (إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك له منه استدراج) ،
فيا أيها العبد الضعيف الفقير (المغرور بعلمه): إن الله عز وجل حذرك من الوصول إلى هذا الحال، وأعلمك بقرب وقوفك بين يديه للحساب والجزاء، في يوم تشيب لهوله الولدان، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان:33) . فإياك أن تكون مغرورا بعلمك، واستحضر قول الصحابي عبد الله بن مسعود: (ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما عُلمت؟)
الدعاء