خطبة عن (المحافظة على الصحة والعناية بها من آداب الاسلام)
مارس 30, 2017خطبة عن (نماذج للسباقين والمسارعين في الخيرات)
مارس 31, 2017الخطبة الأولى ( في التثبت السلامة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (6) الحجرات ،وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (94) النساء ، وفي سنن البيهقي وحسنه الألباني: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ ».
إخوة الإسلام
إن التبين والتثبت والتأني من أخلاق الإسلام ، وقد أمر به رب العالمين، وجاء الحث عليه في سنّه سيد المرسلين، ففي التثبت والتأني حفظ للأرواح، وصيانة للدّماء، وحماية لحقوق الأفراد والجماعات، وقطع لدابر الفتنة والصراعات،
التثبت والتأني به يعرف الحق من الباطل فيما يروج من أخبار وإشاعات ، فما أحوجنا إلى هذا الخلق الكريم؛ في زمن تُرمى فيه التهم جزافا، وتنقل فيه الإشاعات دون تثبت ولا تبين. والتبين والتثبت من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش. فالتثبت دليل على رجاحة العقل وسلامة التّفكير، أما العجلة فدليل على نقص في العقل وخلل في التفكير. وفي الحديث المتقدم أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ ». وفي قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (6) الحجرات ،ففي ذلك بيان واضح بوجوب التثبت من الأخبار ، وعدم التسرع في اصدار الأحكام ، وجاء في أسباب نزول هذه الآيات ، ما رواه الإمام أحمد في مسنده : (أن الْحَارِثَ بْنَ ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَانِي إِلَى الإِسْلاَمِ فَدَخَلْتُ فِيهِ وَأَقْرَرْتُ بِهِ فَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَمَنِ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ فَيُرْسِلُ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَسُولاً لإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ مَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَبَلَغَ الإِبَّانَ الَّذِى أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ احْتَبَسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يَأْتِهِ فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتاً يُرْسِلُ إِلَىَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْخُلْفُ وَلاَ أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلاَّ مِنْ سَخْطَةٍ كَانَتْ فَانْطَلِقُوا فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرِقَ فَرَجَعَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِى. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذِ اسْتَقْبَلَ الْبَعْثَ وَفَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ فَقَالُوا هَذَا الْحَارِثُ فَلَمَّا غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ قَالُوا إِلَيْكَ. قَالَ وَلِمَ قَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ. قَالَ لاَ وَالَّذِى بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً وَلاَ أَتَانِي. فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي ». قَالَ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ وَلاَ أَتَانِي وَمَا أَقْبَلْتُ إِلاَّ حِينَ احْتَبَسَ عَلَىَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ. قَالَ فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) إِلَى هَذَا الْمَكَانِ ( فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). وقال العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى: “من الغلط الفاحش الخَطِر؛ قبول قول الناس بعضِهم في بعض، ثم يبني عليه السامع حُبًّا وبغضًا ومدحًا وذمًا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنمِّيَت بالكذب والزور، وخصوصًا مَن عُرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز وعدم التسرّع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله” ، فلابد من التثبت والتبين فيما يروج من أخبار وإشاعات، فالعاقل لا يعتمد على نُقول الناس وأقوالهم، فإن تناقل القول بين الناس ليس دليلًا على صحته..
أيها المسلمون
والتثبت والتبين وعدم العجلة من أخلاق الأنبياء والمرسلين ، فهذا سيدنا سليمان عليه السلام ، لما جاءه الهدهد بخبر القوم لم يصدر أحكامه قبل أن يتبين حقيقة الأمر ويتثبت من خبر الهدهد ، قال تعالى في قصة سليمان مع الهدهد:
﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 20- 27]. أي سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، ولعل في الأمر التباسا وغموضا ، ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]. وهذا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إمام المتثبتين ، يعلمنا كيف نتأنى في اصدار الأحكام ، وندفع الشك باليقين ، فروى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَقَالَ « وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ ». قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ ». قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فِيمَ أُطَهِّرُكَ ». فَقَالَ مِنَ الزِّنَى. فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَبِهِ جُنُونٌ ». فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. فَقَالَ « أَشَرِبَ خَمْرًا ». فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَزَنَيْتَ ». فَقَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَ يَدَهُ فِى يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْنِى بِالْحِجَارَةِ – قَالَ – فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ ». قَالَ فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ. – قَالَ – فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ ». قَالَ ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الأَزْدِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ « وَيْحَكِ ارْجِعِى فَاسْتَغْفِرِى اللَّهَ وَتُوبِى إِلَيْهِ ». فَقَالَتْ أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِى كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ. قَالَ « وَمَا ذَاكِ ». قَالَتْ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا. فَقَالَ « آنْتِ ». قَالَتْ نَعَمْ. فَقَالَ لَهَا « حَتَّى تَضَعِى مَا فِى بَطْنِكِ ». قَالَ فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ قَالَ فَأَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ. فَقَالَ « إِذًا لاَ نَرْجُمَهَا وَنَدَعَ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ »فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَىَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ. قَالَ فَرَجَمَهَا ) … والتثبت والتبين من أخلاق الصالحين المتقين؛ فقد أخرج الإمام أحمد : (عَنْ أَبِى ظَبْيَانَ الْجَنْبيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَذَهَبُوا بِهَا لِيَرْجُمُوهَا، فَلَقِيَهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: زَنَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا. فَانْتَزَعَهَا عَلِيٌّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَرَدَّهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا رَدَّكُمْ؟ قَالُوا: رَدَّنَا عَلِيٌّ. قَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا عَلِيٌّ إِلاَّ لِشَيْءٍ قَدْ عَلِمَهُ. فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ فَجَاءَ وَهُوَ شِبْهُ الْمُغْضَبِ، فَقَالَ: مَا لَكَ رَدَدْتَ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ»؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ هَذِهِ مُبْتَلاَةُ بَنِي فُلاَنٍ، فَلَعَلَّهُ أَتَاهَا وَهُوَ بِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَدْرِى. قَالَ: وَأَنَا لاَ أَدْرِى. فَلَمْ يَرْجُمْهَا.) ، ولما دخل رجل على عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وذكر له عن رجل شيئا، قال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟.
فقال: العفوَ يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا). وقال أبو إسحاق القيرواني: (قال بعض الحكماء: إياك والعجلة، فإنّ العرب كانت تكنّيها أمّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( في التثبت السلامة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فيا ليت الناس اتخذوا التثبت والتبين وعدم التسرع في اصدار الأحكام أو تصديق الأخبار شعارا لهم، فكلما جاءنا رجل يقول: فلان قال، وفلان فعل، وفلان متهم، وفلانة وقع لها كذا وكذا ، فلو أجبنا كل واحد يسعى بين الناس بالقيل والقال بهذه الكلمة، سننظر، سنبحث، سنتأكد ﴿ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ، فلو اتخذنا هذا شعارا لنا في حياتنا الدنيا ، لقطعنا الطريق على أصحاب النميمة والوشايات الكاذبة الذين يسعون بين الناس بالفساد والإفساد، ولانتهت أكثر الخصومات والنزاعات بين الناس، لأن معظم النزاعات والخصومات التي تقع بين الناس مبنية على إشاعات تتناقلها الألسن دون تثبت ولا تبين، فتَنتُج عنها الكراهية والقطيعة والخصومات… ولكنا من الفائزين يوم القيامة ، وليُعلمْ أن هتكَ الأستار، ليس من الإصلاح في شيء؛ فإن الله تعالى أمر بالستر والنصح، وفي التثبت والتبين صيانة لكرامة المرء، ووقاية له من التهم الزائفة، والإشاعات الكاذبة. وفيه حماية للمرء من الزلل والخطأ، ومن إزهاق النفوس وإراقة الدماء. وقد أمر اللَّه سبحانه وتعالى بالتثبت والتبين حتى في مقام جهاد الأعداء وردّ كيدهم، إذ لا يجوز في ديننا أن يعتدى على نفس بشرية بريئة، حتى ولو كانت لغير مسلم، فما بالك إذا كان صاحبها مسلما، قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 94]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “مرّ رجل من بني سُليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له، فسلم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوّذ منكم. فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ﴾ [النساء: 94] إلى قوله: ﴿ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [النساء: 94]”. أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني. وفي الصحيحين عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ – رضى الله عنهما – يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى الْحُرَقَةِ ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَكَفَّ الأَنْصَارِىُّ ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ) ، وفي رواية أخرى لمسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَقَتَلْتَهُ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ « وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ فَجَعَلَ لاَ يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ « كَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
أيها المسلمون
إن عدم التثبت في ترويج الشائعات ونشرها جريمة ضد أمن المجتمع وسلامته، وأصحابُها مجرمون في حق دينهم ومجتمعهم، مثيرون للاضطراب والفوضى في أمّتهم، فكم تجنّوا على أبرياء، وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء،
وكم نالوا من علماء وعظماء، وكم تسببوا في جرائم وأزمات، وفككوا من أواصر وعلاقات، وحطموا من أمجاد وحضارات… وكم دمرت الشائعات من مجتمعات، وهدمت من أسر، وفرقت بين أحبة. وكم أهدرت من أموال، وضيعت من أوقات. وكم أحزنت من قلوب، وأولعت من أفئدة، وأورثت من حسرة. وكم من صداقة أفسدتها، وعداوات أجّجتها، وحروب أشعلتها، ومحبة كدّرتها، وبيوت هدمتها، ومجتمعات فرقتها… فليعلم الإنسان أنه مسئول أمام الله عز وجل ومحاسب بين يديه عن كل قول وكل كلام، قال سبحانه: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق:18] ،وقال عز وجل: ﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء:36]. وليعلم أنّ كل خسارة لحقت بمسلم، وكل هم أو غم أصاب إخوانه المسلمين، وكل أموال أهدرت بسبب إشاعته التي نشرها أو ساعد في نشرها، فله نصيب من الإثم فيها. فاللبيب لا يتكلم إلا بعد التثبت والتبين، ومن حدَّث بكل ما سمع فقد أزرى رأيَه، وأفسد صدقَه، وقد قال بعض الحكماء: من غلب لسانَه أمَّره قومُه، ولا يُسارع في الحديث إلا من هانت عليه نفسه، ومن اشتغل بما لا يعلم اتهِم فيما يعلم. وقال قتادة بن دعامة رحمه الله: “قد رأينا والله أقوامًا يُسرعون إلى الفتن، وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبةً لله، ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين أمسكوا أطيب نفسًا، وأثلج صدورًا، وأخف ظهورًا من الذين أسرعوا إليها، وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازاتٍ على قلوبهم كلما ذكروها، وَايمُ اللهِ! لو أن الناس يعرفون من الفتنة إذا أقبلت كما يعرفون منها إذا أدبرت، لعقل فيها جيل من الناس كثير”.
الدعاء