خطبة عن قوله تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)
يوليو 29, 2017خطبة عن: الْبَلَاغ الْمُبِين (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
يوليو 29, 2017الخطبة الأولى ( وقفة مع قوله تعالى : فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلاَخِرِينَ ) الزخرف 54 : 56
إخوة الإسلام
لقد ضرَب الله – عزَّ وجلَّ – لنا مَثلاً للحاكم الفاسِد المفسد، وبطانته التي لا تقلُّ عنه فسادًا، في فرعون وقومه، وكيف أنَّه طغَى واستكبر، وعاث في الأرض فسادًا، وكيف كان مصيرُهم في الدنيا والآخرة؛ جزاءً لما جنَتْ أيديهم في حقِّ البلاد والعباد؛ ظلمًا وعدوانًا، كفرًا وعنادًا، إنَّه ليس مجرَّد قصة وتاريخ فحسْبُ، وإنما تحول إلى واقع عملي، وزخم فِعلي، وعالَم حسي – للأسف الشديد – نراها كلَّ صباح، ونحياها كلَّ مساء، إنها صورةٌ قديمة جديدة!ولعلماء التفسير آراء متعددة ، وأقوال كثيرة حول معنى هذه الآيات ، وأذكر لكم بعضا منها : قال السعدي : فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي: استخف فرعون عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا حقيقة تحتها، وليست دليلا على حق ولا على باطل، ولا تروج إلا على ضعفاء العقول. فأي دليل يدل على أن فرعون محق، لكون ملك مصر له، وأنهاره تجري من تحته؟ وأي دليل يدل على بطلان ما جاء به موسى لقلة أتباعه، وثقل لسانه، وعدم تحلية الله له، ولكنه لقي ملأ لا معقول عندهم، فمهما قال اتبعوه، من حق وباطل. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فبسبب فسقهم، قيض لهم فرعون، يزين لهم الشرك والشر. وقال في الظلال : فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني، عن موسى رسول الله (عليه السلام ) «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» ؟!أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد، يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر. والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين.
أيها المسلمون
لم يكن فرعونُ طاغيةً فحسبُ، بل ارْتَقى في طغيانه ليصلَ إلى كونه طاغوتًا، إنَّه تعدَّى على حقِّ الله – عزَّ وجلَّ – فجعل من نفسَه إلهًا يُعبَد من دون الله؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]. بل وبلغ به الاستبداد إلى أن قال : ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]. وبلغ من العُلو والعِناد إلى أن ظنَّ أنَّه لا يُحاسب ولا يُسأل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]. وكذلك زَهْو واستكبار ، قال تعالى: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 39]، بل ووصل به غروره أنه ظنَّ أنَّ مصر له فقط، وهو فقط لمصر، وأنَّه المبصر الوحيد، وكل ما عداه أعمَى لا يُبصر! ، قال تعالى : ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، فلما جاءه رسول الله موسى بالحقِّ وبالبيِّنات، والآيات الواضحة الجلية، التي لا يختلِفُ على صحَّتها اثنان، وعلى أنَّها ليست من صُنع بشَرٍ، قال لموسى – عليه السلام – ومعه قومه: ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 132]، وكان قراره بتكميم الأفواه، وتهديد الرسل والدُّعاة ، وتوعد كل من خالفه وعصاه : ﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]. حقًّا لقدْ مارس فرعونُ أشدَّ أنواع التنكيل والتعذيب، والقمْع والإرْهاب، والسجن والاعتقالات؛ كل ذلك ليردَّ المؤمنين عن إيمانهم، ودعاةَ الحق عن حقِّهم؛ خوفًا على سُلطانه من الزوال، شأنُه شأنُ كل طاغية جاءَ من بعده؛ ليستبدَّ ويتسلَّط. لا يُريد لغَيْر كلمته أن تُسمَع، ولا لغير رأيه أن يَصِل، سَمْتُه الكبر والاستعلاء، أُسلوبُه الظلم والاستعباد، نهْجُه التنكيل والاستبداد، فلا بأسَ مِن مصادرة الحريَّات والممتلكات، ولا بأسَ أيضًا من هتْك الحُرُمات والأعراض، ما دام كلُّ ذلك سيحفظ له سلطانَه، ويضمن له استمرارَه، ويحفظ له أطيانه. ولم يكتفِ بهذا وحسْبُ، بل بدأ طُغيانُه يَزيد بعدَ أن آمَن لموسى – عليه السلام – السحرةُ مِن قوم فرعون؛ ﴿ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71]. أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وقفة مع قوله تعالى : فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن العجب العجاب أن كل هذه الجرائم يرتكبها فرعون والقوم يصفقون له ، فكانت هذه المظاهر المتزايده من التأييد لفرعون مدعاة له أن يستخف هؤلاء الناس ، فلا يقيم لهم وزناً ، ولا يعبأ لهم ، بل ويزداد طغياناً وكفراً ،فقد كانوا خلفه يسيرون خانعين ،لا يردون له قولاً ،ولا يقاومون له عملاً ، فاسخف بهم لسكوتهم عليه ، ولطاعتهم له في كل ما يقدم عليه ، فقال تعالى : ( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ) الزخرف 54، نعم إنهم كانوا أهل فسق ، وأهل ضلال ، لخروجهم عن كل ما هو حق ، وسكوتهم على كل ما هو باطل ، بل وتصفيقهم لكل رأيي وقول غير سديد ولا رشيد ـ ثم بين الله سبحانه وتعالى ماذا حل بهم فقد أغرقهم الله أجمعين , فرعون الطاغية وزبانيته ، وكذلك قومه الذين صفقوا لجرائمه ، فكلهم شملهم العذاب ،فدائرة العذاب تحيط بالطغاة الظالمين ،ويدخل في هذه الدائرة كذلك أقوامهم الساكتون على طغيانهم وظلمهم ، والمؤيدون لهم ، والمصفقون لجرائمهم ـ ويبين الله سبحانه وتعالى في الآية الثالثة أن ما حدث لفرعون وقومه هو مثل لمن يأتون من بعده ، فقال تعالى : ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلاَخِرِينَ) الزخرف 56
أيها المسلمون
إن السكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجب العذاب على الأمة كلها: الظالم والساكت عنه ،كما قال تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. [الأنفال: 25]. وفي سياق ذم القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم نجد قوله تعالى عن قوم نوح ذما وتوبيخا لهم:{وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21]. وعن قوم هود: { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [هود: 59]. فاعتبر القرآن سير المظلوم في ركاب الظالم واستكانته له مما يقتضي الذم والتوبيخ، بل جعل القرآن مجرد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } [هود: 113]. ويشتد نكير القرآن على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويُظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء 97 ـ 99]. ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف إذ يقول: « إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِعَ منهم » رواه أحمد ، ومعنى (تُوُدِعَ منهم) أي: فقدوا أهلية الحياة، وفي بعض الروايات: « وبطن الأرض خير لهم من ظهرها ». فإن المسلم مطالب – بمقتضى إيمانه- ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيًا كان نوعه: سياسيًا كان أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد، إن استطاع وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث: «أضعف الإيمان»
الدعاء