خطبة عن (مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا)
يوليو 29, 2017خطبة عن: علاقة المؤمن بالكائنات حوله ( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ)
يوليو 29, 2017الخطبة الأولى (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } هود 12، 13
إخوة الاسلام
الاستقامة هي فِعل ما ينبغي فِعلُه، وتركُ ما ينبغي تركُه؛ فهي تشمل الدِّين كلَّه، وتنتظم كل الأوامر والنواهي، والاستقامة: “هي سلوكُ الصِّراط المستقيم، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً، ولها ركنان: فعل المأمورات، ترك المنهيَّات، وقال ابنُ رجب رحمه الله تعالى: (أصل الاستقامة: استقامةُ القلب على التوحيد، وقد فسَّر أبو بكر رضي الله عنه الاستقامة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30] بأنهم الذين لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفة الله، وعلى خشيتِه، وإجلاله، ومهابته، ومحبَّتِه، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّل عليه، والإعراض عما سواه – استقامت الجوارح كلُّها على طاعته؛ فإن القلب هو ملِكُ الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنودُه ورعاياه، وأعظمُ ما يراعى استقامتُه بعد القلب من الجوارح اللسانُ؛ فإنه ترجمانُ القلب والمعبِّر عنه) ، ومقام الاستقامة هو من أعلى المقامات، ويُرتَقَى به لأعلى الدرجات، وقد أُمر به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [الشورى: 15]، وأمر به سيدنا موسى وهارون عليهما السلام في قوله: ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 89]، وقد مدَح الله أهلَ الاستقامة فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، وطريقُ الاستقامة هو أقربُ طريق موصل إلى الجنة ؛ ولذلك يُطلب من المؤمنين معرفتَه والثباتَ عليه ، وذلك بقولهم في كل ركعة من ركعات الصلاة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، والصراط صراطانِ: صراطٌ في الدنيا، وصراط في الآخرة؛ فمن ثبَت على الصراط المستقيم في الدنيا، ثبَت على صراطِ الآخرة، ومن انحرَف عن الصراط المستقيم في الدنيا، انحرَف عن صراط الآخرة؛ فعلى العبد أن يتصورَهما عندما يدعو بهذا الدعاء. وأمر الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة هو أمرٌ بالثبات على الاستقامة، ولغيره أمر بها وبالثبات عليها، يقول ابن عطية رحمه الله: “أَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالاستقامة ـ وهو عليها ـ إنما هو أمر بالدوام والثبوت غليها، فالإنسان مهما بلغ من التقوى والإيمان، فهو بحاجة ماسة إلى التذكير بما يثبته، ويزيد استقامته، ولو كان مستغنياً عن ذلك؛ لكان نبينا صلى الله عليه وسلم أولى الناس بهذا، ويقول ابن تيمية رحمه الله: “وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته ، وإن المتأمل في هذا الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة يتبين له عظم وخطورة هذا الأمر ـ أعني الاستقامة والثبات على الدين ـ وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بالاستقامة وحضهم عليها: فعن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أقِيمُوا الصَّلاةَ، وآتُوا الزَّكاةَ، وحُجُّوا واعْتَمِرُوا، واسْتَقِيمُوا يُستَقَم بِكُمْ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وعن سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ قُلْ لِي في الإِسلامِ قَولاً لاَ أَسْأَلُ عنْه أَحداً غيْركَ. قَالَ: (قُلْ: آمَنْت باللَّهِ: ثُمَّ اسْتَقِمْ) (رواه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلا مُؤْمِنٌ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).(لَنْ تُحْصُوا): أي لن تحصوا وجوه الاستقامة كاملة. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْتَ؟ قَالَ: (وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) (رواه مسلم). والمقصود بالسداد: الامتثال والموافقة للشرع على التمام؛ فإن لم يكن فالمقاربة والاقتراب مِن ذلك ما أمكن كما أمر -صلى الله عليه وسلم-: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا). وفي قول الله -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ… ) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جميع القرآن آية كانت أَشَدُّ وَلا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ”؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قيل له: قَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا) (رواه الترمذي والطبراني، وصححه الألباني).
أيها المسلمون
وقد تعترض الانسان موانع تمنعه من الاستقامة ، وعوائق تحول بينه وبينها فيضل السبيل، فمن موانع الاستقامة وعوائقها : – اتباع الشهوات: وهي الرغباتُ المركَّبة في النسيج البشري بمقتضى الحِكمة الإلهية؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، فالشهوات ضروريَّة لحفظ الحياة، ولكن الانحرافُ في إشباعها هو طريقُ الدمار الذي يُعبِّدُه إبليسُ للسائرين، ويذَلِّلُه للسالكين، والسبب في اللهث وراءها ضعفُ الوازع الديني، والتعلُّق بالدنيا، والغفلة عن الآخرة. واتباع الشهواتِ: هو اتباعٌ للهوى الذي يصدُّ عن الحق؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]، وهو الذي منَع أهلَ الكتاب من اتباعِ الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يعرِفونه كما يعرفون أبناءهم، ومنَع المشركين من الاستجابة بعدما تبين لهم الحقُّ، ودفَع أتباعَ مسيلِمة أن يقولوا: كذَّابُ ربيعةَ أحبُّ إلينا من صادق مُضَرَ. – ومن موانع الاستقامة وعوائقها : التأثُّر بالشُّبهات: وهي الأفكار الهدَّامة، والمناهج المنحرفة، التي يزيِّنها شياطين الإنس والجِن، ويروِّجون لها عبرَ الوسائل المختلفة، والوسائط المتنوعة، وهي من بناتِ أفكارهم الساقطة، وأوهامهم الإبليسية؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112]. ومن آثار الشُّبهات: التَّشكيك في الخالق عز وجل، والدعوة إلى الإلحاد، والمناداة بفصلِ الدِّين عن الدولة، والترويج لخروج المرأة وتبرُّجِها واختلاطها بالرجال، تحت مسمى: تحرير المرأة، وباسمِ الحضارة والثقافة والرَّشاقة، والطعن في السنَّة أو في حَمَلَتِها من الصحابة والعلماء، والدعوة إلى التفسيرِ العصريِّ، وتجديد الفقه وأصولِه، والتشكيك في حُجِّية السنَّة، وغير ذلك من الشبهات. – ومن موانع الاستقامة وعوائقها : قُرَناء السوء: فهم يزيِّنون الشرَّ، ويحسِّنون القبيح، وقد بيَّن الله ضرر قرين السوء فقال: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 – 29]، – ومن موانع الاستقامة وعوائقها : طول الأمل: حيث يغترُّ الشابُّ بقوّته، ويخدع بشبابه وصحته، فيسيء العمل، حتى يهجم عليه الموت وقد يكون على أسوأ حال، ويخرج من الدنيا على أقبح خاتمة، ومن موانع الاستقامة وعوائقها : “الطغيان، والركون إلى الظالمين”: فقد جمع الله بيْن الأمر بالاستقامة وبين التحذير منهما؛ لأن كلاً منهما يؤدي إلى زهد العبد في العبادة، وانحرافه عن الصراط المستقيم. قال الحسن البصري -رحمه الله-: “جعل الله الدين بين لاَئين: (وَلا تَطْغَوْا)، (وَلا تَرْكَنُوا)”. فلخَّص الدين كله في أمرين: “النهي عن الطغيان، والنهي عن الركون إلى الظالمين”، والطغيان هو: مجاوزة الحد إما في حدود الله أو في حقوق الناس، ومجاوزة العدل إلى الظلم، وكل مَن جاوز ما أمره الله به ولم يلتزم شريعته؛ فأطلق بصره إلى الحرام، واستمع إلى الحرام، وتناول الحرام، وأكل الحرام، ولم يصن جوارحه عن معاصي الله -تعالى-؛ فهو مِن الطغاة له نصيب مِن جزائهم.- ومما يحمل على الطغيان أن يرى الإنسان في نفسه الاستغناء عن طاعة الله وعن عبادته أو يرى افتقاره إلى معصية الله وحاجته إليها: (كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى . إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:6-8). – ومن عوائق الاستقامة وموانعها : “التوسع في المباحات، وفي فضول الحاجات”: وقد كان السلف -رضوان الله عليهم- يتوقون فضول الكلام والنظر، والطعام والشراب، وما سوى ذلك؛ خشية أن تؤدي إلى التفريط في حق الله -تعالى-. قال بعض السلف: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيُكَلِّمُنِي بِالْكَلامِ لَجَوَابُهُ أَشْهَى إِلَيَّ مِنَ المَاءِ الْبَارِدِ إِلَى الظَّمْآنِ، فَأَتْرُكُ جَوَابَهُ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فُضُولاً”، وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْوَاهِبِيُّ: “مَنْ أَدْخَلَ فُضُولاً مِنَ الطَّعَامِ أَخْرَجَ فُضُولا مِنَ الْكَلامِ”، وخَرَجَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ يَوْمَ الْعِيدِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: “كَمْ مِنَ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ قَدْ نَظَرْتَ الْيَوْمَ؟ فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَ: وَيْحَكِ! مَا نَظَرْتُ إِلا فِي إِبْهَامِي مُنْذُ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكِ حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْكِ!”.
أيها المسلمون
وقوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } هود 13 فليس الركون هو ما يشيعه الجاهلون مِن أنه مجرد مجالسة الكفار أو الظلمة ومخالطتهم لدعوتهم إلى الله -تعالى- مع الإنكار على ما يظهرونه مِن مخالفة للشرع، فقد غشي النبي -صلى الله عليه وسلم- مجالس المشركين يدعوهم إلى الله -تعالى-، وقد أمر الله رسولين كريمين بأن يذهبا بأنفسهما إلى شر الخلق فرعون وأمرهما بإلانة القول له، فقال -تعالى-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:43-44). وإنما الركون الذي حذر الله منه ونهى عنه هو: متابعة الكفار والظالمين على ظلمهم وباطلهم، والرضا به ومعاونتهم. قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: “قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَلا تَرْكَنُوا): الرُّكُونُ حَقِيقَةٌ الاسْتِنَادُ وَالاعْتِمَادُ وَالسُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالرِّضَا بِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لا تَوَدُّوهُمْ وَلا تُطِيعُوهُمْ. وقال ابْنُ جُرَيْجٍ: لا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ. وقال أَبُو الْعَالِيَةِ: لا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ. وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ”. وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: “وَقَوْلُهُ: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لا تُدهنُوا، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرُّكُونُ إِلَى الشِّرْكِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ، أَيْ: لا تَسْتَعِينُوا بِالظَّلَمَةِ فَتَكُونُوا كَأَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ بِبَاقِي صَنِيعِهِمْ ( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ مَنْ دُونِهِ مَنْ وَلِيٍّ يُنْقِذُكُمْ، وَلا نَاصِرٍ يُخَلِّصُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ”. كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مدار الاستقامة في الدين تدور على أمرين عظيمين هما: “حفظ القلب، وحفظ اللسان”؛ فمتى استقاما استقامتْ سائر الأعضاء، وصلح الإنسان في سلوكه وحركاته وسكناته، ومتى اعوجا وفسدا فسد الإنسان، وضلت أعضاؤه جميعًا، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ) (متفق عليه)، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: (كَمَا أُمِرْتَ) بيان أن الاستقامة لابد أن تكون بميزان الوحي وموافقة الشريعة، أي استقم استقامة موافقة لأمر الله لا تفريط ولا إفراط , بل امتثالا لأمر الله تعالى واجتنابًا لنواهيه على وجه الاستمرار على ذلك، ومعلوم أن أمر الله -تعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أمر لأمته إذا لم يرد التخصيص له. فكل إنسان -وإن أظهر الاستقامة- لابد وأن يوزن بهذا الميزان -ميزان الوحي-، قال بعض السلف: “لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ؛ فَلا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ وُقُوفُهُ عِنْدَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي”، ولما قيل للإمام الشافعي -رحمه الله-: كان الليث بن سعد -رحمه الله- يقول: “إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ؛ فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة” قَالَ الشّافِعِيُّ: “قصَّرَ الليْثُ رَحِمَهُ اللهُ! بَلْ إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ، وَيَطِيرُ فِي الهوَاءِ؛ فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة!”. – وقوله -تعالى-: (وَمَنْ تَابَ مَعَكَ): أي ومَن آمَن معك فليستقيموا أيضًا، والاستقامة -كما أمر الله- لا تقومُ بها إلا الأنفس المطهَّرة، والذوات النقية؛ ولذلك حصرها الله -عز وجل- في التائبين، وقد أمر اللهُ المؤمنين بالاجتهاد في تحصيلها مع الاستغفار مما يعرض مِن تقصير في طريق تحقيقها، كما في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (فصلت:6).
أيها المسلمون
وقد جعل الله للاستقامة أكبر الثواب، وأمَّن صاحبها مِن العذاب، وجعل لها أعظم الثمرات. ومِن هذه الثمرات: – سعة الرزق: قال الله -تعالى-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن:16)، وقال عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف:96). – ومن ثمرات الاستقامة : الحياة الطيبة والأجر الحسن وصلاح البال، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (محمد:2). – ومن ثمرات الاستقامة : الرفعة في الدنيا قبل الآخرة: قيل لابن المبارك: “ابن عون -رحمه الله- بمَ ارتفع؟!” قال: “بالاستقامة”. – ومن ثمرات الاستقامة : بشارة الملائكة عند الموت بانتفاء الخوف والحزن: قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت:30-32). فالملائكة تتنزل عليهم عند الموت (أَلا تَخَافُوا) أي: مما تُقدمون عليه مِن أمر الآخرة. (وَلا تَحْزَنُوا): على ما خلَّفتموه مِن أمر الدنيا من ولدٍ وأهل، ومال أو دَين، فإنّا نخلفُكم فيه. (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ): فيبشِّرونهم بذهاب الشر وحصول الخير. – ومن ثمرات الاستقامة : تولي الملائكة للمؤمن المستقيم على دين الله -تعالى- في الدنيا كما تتولاه في الآخرة: كما دلت الآية الكريمة على ذلك في قوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ). أما عن أسباب تحصيل الاستقامة ، فمنها : – الاستعانة والدعاء والتضرع إلى الله -عز وجل-، كما علمنا -سبحانه- أن ندعوه في كل ركعة مِن ركعات الصلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:5-6)، وكان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). فعلى العبد أن يعلم أنه لا غنى له عن توفيق الله ومعونته له طرفة عين أبدًا، وأن قلبه ليس بيده وإنما القلوب بين أصابع الرحمن يقلبها -سبحانه- كيف يشاء، قال مُطَرِّفٌ بن عبد الله -رحمه الله-: “لَوْ أُخْرِجَ قَلْبِي فَجُعِلَ فِي يَسَارِي وَجِيْءَ بِالخَيْرِ فَجُعِلَ فِي يَمِيْنِي مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُوْلِجَ قَلْبِي مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَكُوْنَ اللهُ يَضَعُهُ” (سير أعلام النبلاء). ومنها : صحبة الأخيار والصالحين، والابتعاد عن الأشرار والفاسدين: وقد أمر الله -تعالى- صفوة الخلق -صلى الله عليه وسلم- بأن يحبس نفسه مع الرفقة الصالحة رغم أنه أفضل منهم، وأعظم منهم قدرًا وشأنًا؛ فأنزل الله عليه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28) . – ومنها : حضور مجالس العلم والاستماع إلى الدروس المفيدة، والمواعظ النافعة؛ فكل ذلك يعين على الاستقامة على طاعة الله -تعالى-.
الدعاء