خطبة عن (كيف أتأثر بالقرآن وأعمل به؟)
ديسمبر 23, 2024خطبة عن (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)
ديسمبر 26, 2024الخطبة الأولى (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (49) هود
إخوة الإسلام
حقا ما قال ربنا: (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ): فمن المعلوم: أن العاقبة هنا لا تنحصر في الآخرة، التي ضمن الله تعالى النجاة فيها للمتقين، كما في قوله تعالى: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} الزخرف (35)، بل هي عامة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (97) النحل،
لذا ما أحوجنا نحن – المسلمين- في كل بقاع الأرض، إلى أن نفهم هذه السنة الكونية، وأن (العاقبة للمتقين): فالعاقبة الحميدة لأهل التقوى، متى صبروا، واحتسبوا، وأخلصوا لله، وجاهدوا أعداءه، وجاهدوا أنفسهم وأهواءهم، فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت (69)، فنحن في أشد الحاجة إلى تقوى الله، ولزومها، والاستقامة عليها، مهما أصابنا من الابتلاءات، والأذى، من أعداء الله، ونذكر الرسل – عليهم الصلاة والسلام، ونذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا، واستهزئ بهم، وسُخر منهم، ولكنهم صبروا، فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذه السنة الالهية، أن (العاقبة للمتقين)، ففي صحيح البخاري :(عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا. فَقَالَ «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»، وقال الإمام المراغي: (والعاقبة الحسنى لمن يتقون الله، ويراعون سننه في أسباب إرث الأرض، باتحاد الكلمة، والاعتصام بالحق، وإقامة العدل، والصبر على الشدائد، والاستعانة بالله لدى المكاره، وكل من لم يكن تقياً في أحواله، أو أفعاله، فلا عاقبة له حسنة، وإن أمهل زماناً، أو تُركَ دهراً، وهذه سنة الله في خلقه)،
والمتأمل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتبين له: أنه صلى الله عليه وسلم قد يصيبه أحيانا الهم والحزن، ولكن كانت له العاقبة والنصر والتمكين: ففي غزوة أحد دفع المسلمون ثمنا باهظا، وقدموا سبعين شهيدا، وبكى النبي ﷺ، لما رأى ما أصاب عمه حمزة- واشتد حزنه، قال ابن مسعود: (ما رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء، وكان منظر الشهداء مريعا جدا، يفتت الأكباد).
وجاءت إلى أرض المعركة عمته صفية، تريد أن تنظر أخاها حمزة، ففي مسند أحمد: (عن أَبِي الزُّبَيْر أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ تَسْعَى حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تُشْرِفَ عَلَى الْقَتْلَى – قَالَ – فَكَرِهَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَرَاهُمْ فَقَالَ «الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ». قَالَ الزُّبَيْرُ فَتَوَسَّمْتُ أَنَّهَا أُمِّي صَفِيَّةُ – قَالَ – فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِىَ إِلَى الْقَتْلَى – قَالَ – فَلَدَمَتْ فِي صَدْرِي وَكَانَتِ امْرَأَةً جَلْدَةً قَالَتْ إِلَيْكَ لاَ أَرْضَ لَكَ. قَالَ فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَزَمَ عَلَيْكِ – قَالَ – فَوَقَفَتْ وَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا فَقَالَتْ هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا لأَخِي حَمْزَةَ فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا).ثم قالت: (وقد بلغني أن قد مٌثّل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن إن شاء الله). فأتته، فنظرت إليه، وصلت عليه- دعت له- واسترجعت واستغفرت له)،
فالهزيمة قد تكسر أفئدة الذين يعبدون الله على حرف، أما الذين فنوا في الله وباعوه نفوسهم وأموالهم، فإن عبوديتهم تتألق في السراء والضراء، وهم يسلمون لله ما أراد، ويخضعون لحكمته، فربما كان العطاء مخوف العقبى، وربما كان المنع ألما في الحاضر، وخيرا في المستقبل، وحصن المؤمن أولا وآخرا هو الله تبارك اسمه، لا شك أن ضربة أحد كانت موجعة، بيد أنها نفضت المجتمع الإسلامي نفضا شديدا، فامتاز المنافقون، وانعزلوا بغشهم وخداعهم، وتعلم المسلمون كيف يواجهون الأحداث بإيمان حر، وصف ملتئم، وشمت اليهود للنكبة النازلة، ولكن لم تمض سنون حتى نزل بهم أضعافها، ثم تركوا قلب الجزيرة، نعم قد ينتصر الباطل في جولة من الجولات، أو في معركة من المعارك، ولكن الجولة الأخيرة يقينا لأهل الحق، والنصر لأهل التقوى، وحزب الله، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (56) المائدة،
ولكما كان المؤمنون أكثر إقامة للتقوى، وتحقيقا لها، كان التفريج عنهم أكثر وأكثر، فيُفَرِّج الله عنهم ما لا يفرج عن غيرهم، ويُيَسِّر لهم من العسير ما لا ييسر به لغيرهم، ويسهل لهم من البعيد ما ليس لغيرهم، فالله عنده كل خير، وعنده كل بر وإحسان؛ ولكنه -سبحانه- حكيم يفعل ذلك بمقتضى حِكَمِهِ الكثيرة العظيمة، فالله تعالى يجعل بين الحين والآخر الهزائم تكون لاحقة بأهل الإيمان، وبأهل التمسك، لحكمة أرادها سبحانه، يقول ابن القيم -رحمه الله-: (لو أن الله نصَر المؤمنين ولم تحصل لهم هزيمة، ولم يحصل كسر، لأصيبوا بالعجب والفخر، وأصيبوا بالغرور، ولَدَخَلَ الإيمانَ مَن ليس من أهل الإيمان)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وحقا ما قال ربنا: (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ): فكم من أمةٍ بغت على أنبيائها، وصالحيها، فقتلوا الأنبياء، وحَرَّقوا الصالحين، وأسَرُوا المخبتين، وأشاعوا عن المحسنين الفحشاء، فأبدلهم الله من يسومونهم سوء العذاب، من بني جلدتهم أو من غيرهم – ولو بعد حين – قال تعالى: ﴿ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس:88]. ثم كانت العاقبة للمتقين، والنجاة للمؤمنين.
فهؤلاء إخوة يوسف (عليه السلام) لمَّا بغوا عليه، ورموه في غيابات الجب، فألجأهم الله إليه بعد حين، يسألونه حفناتٍ معدوداتٍ ببضاعةٍ مزجاة، قال تعالى: ﴿قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف:88]. وكانت العاقبة والنصر والتمكين لنبي الله يوسف،
فعلى أهل الحقِّ – حيثما كانوا – ألَّا ينظروا إلى آلامهم بعين الحسرة، بل عليهم أن يعلموا بعين اليقين أنَّ الألم في أهل الباطل أشد، والعاقبة للمتقين، فلا يهنوا ولا يحزنوا، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:104].
وقد تكرر ذكر نصر الله للحق والمحقين، والأنبياء والمرسلين، وأن العاقبة لهم، بعد الابتلاء والصبر، قال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) الصافات (171): (173)، وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) المجادلة: (21)،
فهذه السنة يجب أن يفهمها المسلمون اليوم، لأن ضعاف العقول يتعلقون بالظاهر الحاضر، دون وعي لمصير تلك المظاهر، ودون وعي لمآلاتها وعواقبها. فالعاقبة للمتقين، والهلاك والدمار للمكذبين، قال تعالى: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) (43)، (44) فاطر، وما وقع من نهايات أليمة للحكام الظلمة، الذين حكموا شعوبهم بالقهر، والسجون، وتبديد الثروات، ومحاربة العلماء، والدعاة إلى الله، لهو عبرة لمن يعتبر،
إن التمسك بالحق، واقتفاء السُّنَنِ، والوقوف عند الأوامر والنواهي، وتنويع القُرُبات، والإكثار من الباقيات والأعمال الصالحات، والبعد عن المحرَّمات والأعمال السيئات، إن كل ذلك لَهُوَ زادُ المؤمنين الصادقين، وزاد المصلحين المخلصين.
فأبشروا أيها المسلمون، واعلموا أنكم ما دمتم على الحق صابرين، ثابتين، فالله معكم، ولن يتركم أعمالكم، قال الله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) آل عمران:126.
الدعاء