خطبة عن (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)
فبراير 1, 2025الخطبة الأولى (فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ والْأَلْبَابِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (19) الرعد، وقال تعالى: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ) (2) الحشر
إخوة الإسلام
(فَاعْتَبِرُوا): فالاعتبار: هو النظر في دلالة الأشياء، على لوازمها، وعواقبها، وأسبابها، والعبرة والاعتبار: (هو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب المجهول)، وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: (لِلْمُؤْمِنِ أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ: كَلَامُهُ ذِكْرٌ، وَصَمْتُهُ تَفَكُّرٌ، وَنَظَرُهُ عِبْرَةٌ، وَعِلْمُهُ بِرٌّ، فَهَنِيئًا لِمَنْ تَفَكَّرَ وَاعْتَبَرَ، وَتَذَكَّرَ وَاتَّعَظَ)، ويقول الصحابي الجليل (عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه: (السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ)، فمن صفات المؤمن: أنه يستلهم الدروس والعبر: مما يرى، أو يسمع، أو يحدث لغيره.
(وأُولُو الْأَلْبَابِ والْأَبْصَارِ): هم أهل الأفهام والعقول والبصيرة، فلا يعتبر ولا يتعظ ولا يتذكر إلا أصحاب العقول الراجحة، والبصائر السليمة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، ولذلك فقد أمَرَنَا اللَّه تَعَالَى بِالاِتِّعَاظِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالاِعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ، فَقَالَ تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) أَيِ: اتَّعِظُوا يَا أَصْحَابَ الْعُقُولِ وَالأَلْبَابِ، فَالْعَاقِلُ فِي تَفَكُّرٍ دَائِمٍ، لِلرُّقِيِّ بِالنَّفْسِ، وَالاِسْتِزَادَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَفِعْلِ الصَّالِحَاتِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشر: 18، فَدَوَامُ التَّفَكُّرِ سَبَبٌ لإِزَالَةِ الْعُيُوبِ، وَتَكْمِيلِ النَّقْصِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا). والذي يعتبر هو الذي امتلأ قلبه من خشية ربه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، فلا بد لنا من عقل واعٍ، وفكر ناضج.
(وأُولُو الْأَلْبَابِ والْأَبْصَارِ):هم الذي يتقون الله تعالى، ويعملون بما أمر، وينتهون عما نهى الله عنه وزجر، قال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) (197) البقرة ،وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) (8): (10) الطلاق
(وأُولُو الْأَلْبَابِ والْأَبْصَارِ): هم الذين يتفكرون في آلاء الله ونعمه، وعجيب خلقه وصنعه، ويتذكرون فيستجيبون، قال تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (7) آل عمران، وقال تعالى: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (52) إبراهيم، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (29) ص، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (9) الزمر، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (21) الزمر، وقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (190)، (191) آل عمران
(وأُولُو الْأَلْبَابِ والْأَبْصَارِ): هم الذين يعتبرن بمن كان قبلهم، ويستلهمون الدروس والعبر من قصص السابقين، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (111) يوسف
(وأُولُو الْأَلْبَابِ والْأَبْصَارِ): هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (18) الزمر،
فتفكَّروا واتعظوا يا أصحاب الفهوم والألباب، تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله تعالى، وخالف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذَّب كتابه؛ كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم.
أيها المسلمون
وللعبرة والاعتبار والاتعاظ مناحي شتى، وأحوال متعددة: ومنها: العبرة في بيان قدرة الحق سبحانه: وأعظم ما يكون ذلك بالنظر في مصنوعات الله، والتفكر في مخلوقاته، فالصنعة تدل على الصانع، ودقة الخلق تدل على عظمة الخالق، ورب العزة سبحانه يدعونا لنتأمل في خلقنا، وفي خلق السماوات والأرض، وخلق النبات، والبحار، والحيوان، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، وقال تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99]، وقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل:66].
ومن العبرة: الاعتبار بهلاك الظلمة والطغاة: قال الله تعالى عن فرعون: (فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (21): (26) النازعات، وقال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (38): (40) القصص،
ومن العبرة: الاعتبار بزوال الأمم: قال تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (128) طه، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) (9)، (10) الروم، فأحوال الناس معلقة بإيمانهم، فإذا غيروا غير الله عليهم، فإن هم آمنوا بالله أنزل لهم المطر، وأنبت لهم الزرع، وأحفل لهم الضرع، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فإذا غيروا وعصوا وظلموا وكفروا نعمته؛ أهلكهم بذنوبهم وظلمهم، فأمسك عنهم القطر، وأبدلهم بعد الأمن خوفًا، وبدل الرزق جوعًا، وبدل النعمة نقمة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. قال ابن تيمية: (وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان).
وَمِن الاِعْتِبَارِ: أَنْ يَنْظُرَ الإِنْسَانُ فِيمَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْخِصَالِ، فَيَقْتَدِيَ بِأَحْسَنِهَا، وَيَبْتَعِدَ عَنْ سَيِّئِهَا، وَإِنْ أَعْجَبَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلٌ جَمِيلٌ، زَيَّنَ نَفْسَهُ بِهِ، أَوْ خُلُقٌ كَرِيمٌ، سَارَعِ إِلَيْهِ، أَوْ عِلْمٌ نَافِعٌ أَخَذَ بِهِ، أَوْ تَجْربَةٌ نَاجِحَةٌ اسْتَفَادَ مِنْهَا، يَقُولُ الْحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَصْفِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ:(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الْأَلْبَابِ) (18) الزمر،
وَمِن الاِعْتِبَارِ: التَّأَمُّلُ فِي بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَجَائِبِ صُنْعِهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدِ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي». قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ -أَيْ ثَوْبَهُ- ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ:« أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)» رواه ابن حبان في صحيحه.
ومن وجوه التفكر والاعتبار: النظر في أحوال أهل الكفر والمعاصي والسيئآت، الذين تجرأوا على رب الأرض والسموات، كيف عاجلهم الله بالعقوبات، مع ما ينتظرهم من العذاب الأليم، قال سبحانه : “فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” العنكبوت:40.
ومن وجوه التفكر والاعتبار: العبرة بمن استطال على الناس بجاهه وماله: فبعض الذين فاجأتهم النعمة، نظروا إلى البشر نظرة ازدراء واحتقار، وظنوا أنهم فوق بقية الناس، اعتزازا بأموالهم، أو بجنسياتهم، وهؤلاء ضرب الله لهم مثلًا بقارون، كان من قوم موسى فبغى عليهم، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:76-78]، فنسب النعمة لنفسه ولم ينسبها لرب العزة سبحانه. فكيف كانت العاقبة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
أقول قول وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ والْأَلْبَابِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن وجوه التفكر والاعتبار: أن العاقبة لمن اتقى وصبر: فهذا نبي الله يوسف (عليه السلام )، فقد حسده إخوته، وهموا بقتله، قال تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} يوسف: (9)، (10)، وتمضي الأيام ويمكن الله له في الأرض، بل ويأتي إخوته إليه أذلة صاغرين، قال تعالى: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] [يوسف:90].
والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما هاجروا تركوا ديارهم وأموالهم لله تعالى، فعوَّضهم الله بأن جعلهم قادة الدنيا، وحكام الأرض، وفتح عليهم خزائن كسرى وقيصر، ومكنهم من رقاب الملوك والجبابرة، هذا مع ما يرجى لهم من نعيم الآخرة، فشكروا، ولم يكفروا، وتواضعوا ولم يتكبروا، وحكموا بالعدل بين الناس، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وهذا أمير المؤمنين: (عمر بن عبد العزيز- رحمه الله) لما حضرته الوفاة، قال له مسلمة بن عبد الملك -وكان قائد جيوشه وابن عمه-: يا أمير المؤمنين، إنك أقفرت أفواه ولدك من هذا المال، فتركتهم عالة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائي من أهل بيتك، قال: فقال: أسندوني، ثم قال: أما قولك إني أقفرت أفواه ولدي من هذا المال؛ فإني والله ما منعتهم حقًا هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك لو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائي من أهل بيتك؛ فوصيي ووليي فيهم الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين. بني أحد رجلين: إما رجل يتقي، فسيجعل الله له مخرجًا، وإما رجل مكب على المعاصي، فإني لم أكن لأقويه على معصية الله. ثم بعث إليهم وهم بضعة عشر ذكرًا، قال: فنظر إليهم فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلى لا شيء لهم، بلى بحمد الله قد تركتهم بخير، أي بني إنكم لن تلقوا أحدًا من العرب ولا من المعاهدين إلا كان لكم عليهم حقًا، أي بني إن أمامكم ميل بين أمرين، بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، وأن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، قوموا عصمكم الله فلقد رآهم بعد ذلك من رآهم وقد أغناهم الله من فضله، فمنهم الأمير ومنهم من يتصدق بالألوف ويحمل في سبيل الله.
أيها المسلمون
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}: ولا تعتمدوا على غير الله، فليس للزاهد أن يعتمد على زهده، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، فانظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار، فلا اعتماد إلا على فضل الله ورحمته.
الدعاء