خطبة حول مضمون قوله تعالى ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ )
أغسطس 9, 2025الخطبة الأولى (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى (على لسان مؤمن آل فرعون): (يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) غافر: (29).
إخوة الإسلام
لنا اليوم -إن شاء الله تعالى- وقفات مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز، والتي يقول فيها مؤمن آل فرعون: «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ»، فهو يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل لهم الملك، والظهور في الأرض، بالكلمة النافذة، والجاه العريض، فكأنه يقول لهم: راعوا هذه النعمة، بشكر اللَّه، وتصديق رسوله، واحذروا نقمته وعذابه، إن كذبتم رسوله، وتذكير العباد بنعم الله تعالى عليهم هو دأب المرسلين، وطريق الدعاة والمصلحين، فلله تعالى على عباده نِعم لا تعد وتحصَى، وخيراتٍ لا تستقصَى، فقد تفضَّل الله بهذه الخيرات والنِّعَم على خَلقِه، ووَعَد عبادَه الزيادةَ إن هم شكَروه، وضمِن لهم بقاءها واستمرارَها إن هم أطاعوه، فقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7] وهباتُ الله تعالى وعطاياه ظاهرةٌ وباطنة، جليّة وخفيّة، ومعلومة ومجهولَة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20]. ومن نعمه على ابنِ آدم أن خلقه في أحسن تقويم، قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]. ومن نعمه على عبادِه: تعليمِهم الحلالَ والحرام، والخيرَ من الشرّ، والهُدى من الضلال، والتفضُّل عليهم بالسمعِ والبصَر والعقل، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]. ومن نِعَم الله على عبادِه أن أخرجِ لهم أصناف النّباتِ مِن باطن الأرضِ، وحِفظِه من الآفات، وأمده بأسباب الحياة من الضّوء والماء والهواء وغير ذلك؛ قال الله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس:33-35]،
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بنعم الله عليهم، فيقول للأنصار يوما كما في الصحيحين: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ». قَالاَ الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا». فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ مَرْحَبًا وَأَهْلاً. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَيْنَ فُلاَنٌ». قَالَتْ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ. إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّى – قَالَ – فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا مِنْ هَذِهِ. وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ». فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ».
أيها المسلمون
وقوله: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) غافر: (29). أي من يستطيع أن ينصرنا من عذاب الله تعالى إن أرسله علينا، وذلك بسبب عدم شكرنا له، واعتدائنا على خلقه، ومَن يدفع عنا عذاب الله إن حلَّ بنا؟، فلا تغني عنكم هذه الجنود، وهذه العساكر، فهي لا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا الله بسوء، فمن يستطيع أن يقف أمام بأس الله عز وجل، وأمام أخذه؟، وهذا قارون خسف به وبداره الأرض، وابتلعته الأرض بأمواله وخزائنه، فما وجد فئة تنصره من دون الله وما كان من المنتصرين، فلله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن، فأين ثمود وعاد؟، وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟، وأين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟، فلما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا، قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [العنكبوت:40].
ولذلك فقد أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، وحذَّر الآمنين من مكرِه الذين لا يُقدِّرون اللهَ حقَّ قدره، ولا يقِفون عند نهيِه وأمرِه، فقال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين . أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم} ، وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون . أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون . أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون . أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون} [الأعراف:97-100].
ومن أعظم أسباب العذاب العام: الظلمُ، فبسببه هلَكَت الأممُ السالِفة، والقرونُ الخالية، وبسببه تسقُط الدولُ، وتهلَك القُرى، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59]، وقال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِين} [الأنبياء:11]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد} [هود: 102]» (أخرجه البخاري).
وكُفران النِّعم من أسباب العقوبات العامة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} [النحل:112]،
والغفلةُ والإغراقُ في اللهو والعبَث من أسباب العقوبات العامة: فقد جاء في مُسند أحمد: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو استِدراجٌ. ثم تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون} [الأنعام:44]».
والذنوبُ والمعاصِي تُزيلُ النِّعَم، وتُحِلُّ النِّقَم، وتُحدِثُ في الأرضِ أنواعًا من الفساد: في الماء والهواء، والزروعِ والثِّمارِ، والمساكِن، والأرزاق، والأمنِ، وسائرِ الأحوال، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم:41]، وقال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين} [الأنعام:6]، وقال سبحانه: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}، وقال عزَّ من قائلٍ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير} [الشورى:30].
أيها المسلمون
ومن الملاحظ في دعوة مؤمن آل فرعون: حسن دعوته، حيث جعل الأمر مشتركًا بينه وبين قومه، بقوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا} وقوله: {إِنْ جَاءَنَا} ليفهمهم أنه ينصح لهم، كما ينصح لنفسه، ويرضى لهم، ما يرضى لنفسه. وفي نفس الوقت فيه تخويف لهم من عذاب الله وبأسه وبطشه. ومن فوائد الآية الكريمة: قوة إيمان الداعي إلى الله، وأنه لا دافع ولا مانع لما أراد الله، لقوله : (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا): وهذا يدل على كمال يقينه، حيث آمن بأنه إذا جاء بأس الله فإنه لا مرد له.
وقوله: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) غافر: (29). ففي هذا إشارة إلى أن العذاب إذا نزل يعم الصالح والفاسد، ويكون قوله: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) يراد به حقيقته، أي أنه هو سيصيبه ما أصابهم، ويكون هذا شاهده قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الانفال: (25)، ويؤيده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ». وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ»، وفي الصحيحين: (قَالَتْ عَائِشَةُ – رضي الله عنها – قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (مَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقوله: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) غافر: (29)، فمن أسباب نزول العذاب، وحلول العقاب: أن يخذل المسلم أخاه المسلم، فعندما يعجز المظلومون عن أخذ حقوقهم، وإقامة القصاص ممن ظلمهم، ونهب حقوقهم، ينصرهم الله، ويعاقب المتخاذلين منهم، ففي المستدرك للحاكم: (عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم)، وفي المعجم للطبراني: (عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها قال إن فيه عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين قال اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر لي ساعة قط)، وفي سنن الترمذي: (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ». فالمسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يسلمه لأعدائه، وفي الصحيحين: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ – رضي الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ،وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)، وفي صحيح البخاري: (أن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
أيها المسلمون
ويتعرض إخواننا من المسلمين المستضعفين في هذا الزمان للقتل والتنكيل، والحصار والتجويع، كما هو الحال في قطاع غزة، وسورية، والسودان، وغيرها من البلاد التي يلاقي فيها المسلمون كل أصناف العذاب، ولم يتحرك المسلمون لنصرتهم، وأسلموهم إلى أعدائهم ، تحت ويلات هذه المحرقة الكبرى وحرب الإبادة الجماعية التي شنها عليهم التحالف وقد بلغ الظلم مداه بالتكبر والتجبر، والإعراض عن الحق، والإمعان في القتل وإراقة الدماء وانتهاك كافة حرمات البشر: من الأطفال، والنساء، والشيوخ، والمرضى، والمصابين، والمعوزين، الذين لم يكن لهم حول ولا قوة لدفع هذه العدوان، ومنع جحيم الظلم الذي انفتح فوق رؤوسهم، وقد تخلّى عنهم الأهل والجيران والإخوة والخلان، وتآمر البعض عليهم مع أعدائهم، فكان البعض منهم عونا للظالمين على المظلومين،
فالمستضعفون من المسلمين يصرخون ويستغيثون، ويستنجدون صبح مساء، يستفزون بقتلاهم وجرحاهم النخوة والرجولة، والأخوّة والعروبة والإسلام، ويستنجدون بالإنسانية والشرائع الدولية، دون أن يهتز لهم جفن، أو يرتجف فيهم عِرق، أو يتدفق في وجوههم دم، وكأن أهل غزة ليسوا عربا ولا مسلمين، فليعلم الجميع: أن عذاب المتخاذلين قادم، وسيصيبهم في مقتل، وسيتذوقون من أسوإ الكؤوس، التي تجرعها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فالعذاب قادم، أياً كانت النتيجة النهائية للحرب،
ولذا فمن الواجب علينا أن نهب لنصرتهم قبل أن يحل بنا العذاب، وعلينا أن نتبرأ من المتخاذلين، قبل أن تدور علينا الدائرة، وعلينا أن ننصرهم كل منا حسب استطاعته، مع الدعاء، واللجوء إلى الله تعالى، قال الإمام ابن القيم: «وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يُرد بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند». فاحْذَرُوا عباد الله عِقَابَ اللَّهِ، فعلى العاقل أن يحذر من عقوبة المعاصي والخذلان؛ وألا يغتر بالتأخير؛ فإن الله تعالى لا تضره معصية العاصي، فإنه تعالى قد يؤخر العقوبة، ولكن متى نزلت فلا نجاة للعاصي، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِى لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود:102،
الدعاء