خطبة حول معنى قوله تعالى ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا )
نوفمبر 22, 2025الخطبة الأولى (فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». وفي رواية في سنن أبي داود: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي)، وفي رواية في مسند أحمد: «إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فِتَناً كَقِطَعِ الدُّخَانِ يَمُوتُ فِيهَا قَلْبُ الرَّجُلِ كَمَا يَمُوتُ بَدَنُهُ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً وَيُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً يَبِيعُ أَقْوَامٌ خَلاَقَهَمْ وَدِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا »
إخوة الإسلام
إنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا، تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا؛ فهي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وفِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، وفِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، وتَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ،
وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا وَمُدْلَهِمَّاتِهَا، وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ: “تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ، وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ “
ثُمَّ يُوَجِّهُ -رضي الله عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِنَابِ الْفِتَنِ فَيَقُولُ: “فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَأقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ)،
والرَّسُولَ ﷺ في هذه الأحاديث المتقدمة يخبرنا عَنْ فِتَنٍ طَامَّةٍ، تَتَلَبَّسُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَتَتَسَرَّبُ إِلَى الْقُلُوبِ، كَمَا يَتَسَرَّبُ السُّمُّ فِي الْعُرُوقِ، فهو صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَحَدَّثْ عَنْ فِتَنٍ هَيِّنَةٍ، وَلَا عَوَارِضَ عَابِرَةٍ؛ بل يحذرنا من الفِتَنُ التي يُخلَطُ فيها الحَقُّ بالباطِلِ، فيَصعُبُ على المُطَّلِعِ الفَصلُ والتَّمييزُ فيها، وتلك الفِتنُ تَكونُ كَقِطَعِ اللِّيلِ المُظلِمِ، لا يَتميَّزُ بَعضُها من بَعضٍ، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّتِها وضَرَرِها، وشُمولِها لِكُلِّ مَن شَهِدَها، فيَكونُ المسلم في الْتِباسٍ مِنها؛ لا يَتميَّزُ بَعضُها من بَعضٍ، ومِن شِدَّةِ تلك الفِتَنِ: يُصبِحُ الرَّجلُ مُؤمِنًا وَيُمسي كافِرًا، أو يُمسي مُؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، فيَأتيه مِنَ الفِتنِ ما تَزِلُّ به قَدمُه عن صِفَةِ الإيمانِ؛ وَهذا لِعِظَمِ الفِتنِ، أن يَنقَلِب الإنسانُ في اليومِ الواحِدِ هذا الانقِلابَ، ومِن شِدَّةِ تلك الفِتَنِ أيضًا أن يَترُكَ المرءُ دينَه من أجلِ مَتاعٍ دَنيءٍ، وثَمنٍ رَديءٍ.
وفتنة اختلاط أهل الحق بأهل الباطل، حتى يصعب التمييز بينهم، قد أشار إليها القرآن الكريم، مبينًا أن هؤلاء المندسين الذين يُحدثون الفتنة لا يخفون عليه سبحانه، فقال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا} الأحزاب:18،
وذكر النبي ﷺ ذلك الزمان الذي يختلط فيه الحق بالباطل، ويفتتن الناس فيه، حتى يُظنَّ أن الكاذب صادق، وأن الصادق كاذب، ففي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».،
ففي هذه السنوات تكون الفتن كقطع من الليل المظلم لفرط سوادها وظلمتها وعدم تبين الصلاح والفساد فيها، فهم يستحلون الدم والمال، ويكون الولاة ظلمة، فيريقون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حق، ويزنون ويشربون الخمر، فيعتقد بعض الناس أنهم على الحق، ويفتيهم بعض علماء السوء، على جواز ما يفعلون من المحرمات، فيجري بين الناس مما يخالف الشرع في المعاملات والمبايعات وغيرها فيستحلونها.
أيها المسلمون
والْفِتْنَةُ لَيْسَتْ دَائِمًا سَيْفًا يُشْهَرُ، أَوْ حَرْبًا تُشَنُّ، فقَدْ تَكُونُ شُبْهَةً تُضَلِّلُ، أَوْ شَهْوَةً تُغْوِي، أَوْ نِعْمَةً تُطْغِي، أَوْ مِحْنَةً تُزَلْزِلُ، وزَمَانُنَا هذا يَزْخَرُ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، لَا تُشْبِهُ فِتَنَ الْأَوَّلِينَ، فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ، وَتَلْبِيسِ الْحَقَائِقِ، فِتْنَةٌ تَقْلِبُ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا، ففِي الْإِنْتِرْنِتِ كُلِّ يَوْمٍ فِكْرٌ شَاذٌّ، وَشُبْهَةٌ مُلَبَّسَةٌ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّبَابِ يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ مِنْ بَثٍّ، أَوْ مَقْطَعٍ أَوْ مُنْتَدًى،
وفي زماننا كثرة فِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ: فالشَهَوَاتٌ تَتَقَاطَرُ عَلَى الْقُلُوبِ: نَظَرٌ مُحَرَّمٌ، وَعَلَاقَاتٌ فَاسِدَةٌ، وَفُجُورٌ يَدْخُلُ البُيُوتَ بِلَا إِذْنٍ، وقُلُوبٌ تَتَشَبَّعُ بِصُوَرٍ عارية، وَأَبْصَارٌ تَسْتَمْتِعُ بِحَرَامٍ، وَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ: إِنَّهُ عَصْرُ الشَّهْوَاتِ إِنْ لَمْ نُجَاهِدْ، وكذا فِتْنَةُ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَاصِبِ: فهي فِتْنَةٌ اِمْتُحِنَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فأَمْوَالٌ تُجْتَنَى مِنْ حَرَامٍ، وَمَنَاصِبُ تُنَالُ بِالظُّلْمِ، وَشَرَفٌ يُضَحَّى بِالدِّينِ فِيهِ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا، وهناك فِتْنَةُ تَغْيِيرِ الْهُوِيَّاتِ: وهي فِتْنَةٌ تُرِيدُ مِنْ أَوْلَادِنَا أَنْ يَنْقَطِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَأَنْ يَنْسَوْا قُدْوَاتَهُمُ الْعَظِيمَةَ، وَأَنْ يَتَّخِذُوا لَهُمْ أَهْدَافًا وَهُوِيَّاتٍ غَرْبِيَّةً فَاسِدَةً.
وَلا تَزَالُ هَذِهِ الْفِتْن فِي كُلِّ عَصْرٍ: فهؤلاء كُفَّارٌ اغْتَرُّوا بِعُلُومِهِمْ، وَقَوْمٌ ظَنُّوا أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ التِّقْنِيَّاتِ يَجْعَلُهُمْ أَقْوَى مِنَ الْقَدَرِ، فَنَسُوا الْمُنْعِمَ، وَجَحَدُوا الْمُسْتَحِقَّ لِلسُّجُودِ.
ومن الفتن: الْعُلُومُ الضَّارَّةُ الَّتِي تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْأَخْلَاقَ، أَوْ الْمَعَارِفُ الَّتِي تُبْعِدُ عَنِ اللهِ، فهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْفِتَنِ الْمُعَاصِرَةِ.
يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
والسؤال: كَيْفَ نَنْجُو مِنَ هذه الْفِتَنِ؟، والجواب: نَجَاتُكَ – أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ – فِي التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ الله تعالى، كما وصفه بذلك الصادق المصدوق ﷺ، حيث قال: «إنها ستكون فتنة، قال: قلت فما المخرج؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، من ابتغى الهدى (أو قال: العلم) من غيره أضله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي تناهى الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» [رواه البيهقي في الشعب].
ونَجَاتُكَ – أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ – في التمسك بالسُّنَّةِ المطهرة، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففِيهِا النُّورُ وَالثَّبَاتُ، وفي سنن البيهقي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ تَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ».
والنجاة في الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ: فَالرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، وأخلاق صاحبه وصديقه، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»، وفي مسند أحمد: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِطُ»
والنجاة في مُجَاهَدَة الشَّهَوَاتِ: فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ». رواه مسلم.
والشهوات: هي ما تميل إليه النفس من غير تعقُّل ولا تبصُّر، ولا مراعاة لدين ولا مُروءة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الله خلق فينا الشهوات واللذات؛ لنستعين بها على كمال مصالحنا، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسِه نعمة، وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به، هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل، فإذا استُعين بهذه القوى على ما أمرنا، كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حرَّمه علينا – بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها بالمظالم، أو بالإسراف فيها، أو تعدَّينا أزواجنا، أو ما ملَكت أيماننا – كنا ظالمين معتدين، غير شاكرين لنعمته).
ونجاتك في كَثْرَة الذِّكْرِ، فَالذِّكْرُ حِصْنٌ، وَقَلْبٌ يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ لَا تَدْخُلُهُ الْفِتْنَةُ، قال بعض السلف: “من عرَف الله أحبه، ومن أحبه أكْثَرَ من ذكره”، وذكر الله سبحانه وتعالى عبادة يسيرة، قد وردت آيات كثيرة وأحاديث صحيحة في فضلها؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب:41- 43]. وقال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة:152]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ »، فما عمِل ابن آدم عملًا أنجا له من عذاب الله، من ذكر الله؛
ونجاتك في الدُّعَاء: فَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: «اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، ففي مسند أحمد: (أن أُمَّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ «اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ قَالَ «نَعَمْ مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ».
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
ومن المنجيات من الفتن في هذا الزمان: «العزلة عند اضطراب الحق بالباطل»، أما «الحق» فإنه يعرف بأمارات الوحي ودلالات العقل والحكمة، وليس شرطا فيه كثرة أتباعه ولا أنصاره، بل الواقع أن أهل الحق في كل زمان قلة مستضعفة، فإذا أعطاهم الله شيئًا من متاع الدنيا فهو العارِض لا الأصل، كما أن الحق والباطل يتداولان النصر والهزيمة، فليس من علامات الحق انتصاره ولا انهزامه. والله سبحانه وتعالى كلف عباده بالتزام الحق، والدفاع عنه، والدعوة إليه، والتضحية في سبيله قدر الوسع والطاقة، أما انتصاره في دنيا الناس فليس بيدِ الخلق، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ»، وشَعَفُ الجِبَالِ: أعْلاَهَا ورؤوسها، ومواضع القطر: بطون الأودية. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم، أنجى الناس منها صاحب شاهقة [أي مقيم بجبل عالٍ]، يأكل من رِسْلِ غَنَمِهِ [لبنها]، أو رجل من وراء الدروب [أي الطرق] آخذ بعنان فرسه يأكل من ظل سيفه) [صحيح الجامع].
وروى أبو داود: (عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنه- قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم– إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ فَقَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا [وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ] قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: (الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ وَمَوْتًا يُصِيبُ النَّاسَ حَتَّى يُقَوَّمَ الْبَيْتُ بِالْوَصِيفِ -يَعْنِي الْقَبْرَ- قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: تَصَبَّرْ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ وَجُوعًا يُصِيبُ النَّاسَ حَتَّى تَأْتِيَ مَسْجِدَكَ فَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى فِرَاشِكَ وَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ أَوْ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ قَالَ: عَلَيْكَ بِالْعِفَّةِ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ وَقَتْلًا يُصِيبُ النَّاسَ حَتَّى تُغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ [موضع بالمدينة] بِالدَّمِ قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ قَالَ: الْحَقْ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا آخُذُ بِسَيْفِي فَأَضْرِبَ بِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ: شَارَكْتَ الْقَوْمَ إِذًا وَلَكِنْ ادْخُلْ بَيْتَكَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ دُخِلَ بَيْتِي قَالَ: إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ فَيَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ فَيَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) [رواه ابن ماجة]،
وفي صحيح مسلم: (أن أَبَا بَكْرَةَ يُحَدِّثُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلاَ ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا أَلاَ فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلاَ غَنَمٌ وَلاَ أَرْضٌ قَالَ « يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لْيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي قَالَ «يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
فَاثْبُتُوا – رَحِمَكُمُ اللهُ – عَلَى دِينِكُمْ، فَهَذَا زَمَنٌ تَتَلَاطَمُ فِيهِ الْفِتَنُ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ. اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَاكْشِفْ عَنَّا فِتَنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
الدعاء
