خطبة عن (يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ) مختصرة
أغسطس 5, 2024خطبة حول معنى قوله تعالى ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ )
أغسطس 10, 2024الخطبة الأولى (فِي الأَمْرِ سَعَة)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام مسلم في صحيحه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَيْسٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قُلْتُ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ. قُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً). وفي رواية للترمذي: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَيْفَ كَانَ يُوتِرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ فَقَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَصْنَعُ رُبَّمَا أَوْتَرَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَرُبَّمَا أَوْتَرَ مِنْ آخِرِهِ. فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً فَقُلْتُ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ أَكَانَ يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ يَجْهَرُ قَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ قَدْ كَانَ رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ قَالَ فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً قُلْتُ فَكَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَوْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ فَرُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ قُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً).
إخوة الإسلام
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً): هذه المقولة المباركة فيها بيان ليسر الإسلام، ورفع الحرج عن هذه الأمة، كيف لا، وقد قال الله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78]، وقال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة:6]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:185]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء:28]، وقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، وفي الصحيحين: (عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا»، وفي صحيح البخاري: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ – أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ – فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»، وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ «الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»، وفيه أيضا: (قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلاَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»، وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)،
أيها المسلمون
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً): فالحمد لله الذي مَنَّ علينا – نحن المسلمين- بأنْ جعَلَ شريعتنا شريعة الاسلام سَمْحةً وفيها سعة، وما جعَل علينا مِن ضِيقٍ وعُسرٍ، بل رفع الله الحرج عن هذه الأمة، فلا يكلفون ما لا يطيقون، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة:286، وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (7) الطلاق، فالتضييق والحرج مرفوع عن ديننا بنص القرآن، والسنة المطهرة، والعنت مدفوع ومنفي عنه، يقول ابن القيم : ” فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله – ﷺ – أتم دلالة وأصدقها”.
ويُنكر النبي ﷺ على المتطرفين والمغالين في العبادة، أو في تحريم الطيبات، ويعلن أن من فعل ذلك فقد رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم، ومن رغب عن سنته فليس منه، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّى أُصَلِّى وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». ولما استفتى الرجل الذي جامع زوجته في رمضان، فأوسعوه تخويفا وترهيبا، فذهب إلى النبي ﷺ يستفتيه، فلما عاد من عنده قال لقومه: “وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله – ﷺ – السعة وحسن الرأي”، ففي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ «مَا لَكَ». قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا». قَالَ لاَ. قَالَ «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ». قَالَ لاَ. فَقَالَ «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا». قَالَ لاَ. قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ – وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ – قَالَ «أَيْنَ السَّائِلُ». فَقَالَ أَنَا. قَالَ «خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ». فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا – يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ – أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»
أيها المسلمون
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً): فإن رَفع الحرَج عن هذه الأمّة المسلِمة، هو ملائمٌ لفضلها، وعدلِ شريعتها، وعمومِ رسالة نبيِّها، التي هي خاتمةُ الرسالات، ومناسبٌ لبقاء دينِها، وظهورِه على الدّين كلِّه، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ) [التوبة:33]، فهو نهجٌ ربّانيّ عامٌّ شامل، صالحٌ للبشر كافّةً، مهما تبايَنَت درجةُ رقِيِّهم، أو اختلفت مراتِب حضارتهم، وهو نهجٌ لا تشتَبِه فيه السّبُل، ولا تلتوي فيه المسالك، يسَّر الله فيه للأمّة، وأوضح لهم معالمَه.
وليسر الدين ولسماحته، ولرَفعِ الحرجِ فيه أمثِلة بيِّنة، وشواهد واضحة، ومنها: إباحةُ التيمُّم عند فَقد الماء، وعند التأذِّي باستعماله لمرضٍ ونحوه، ومنها إباحةُ الصلاة قاعِدًا للعاجز عن القيام، ومنها: إباحة الفِطر للمسافر، والمريض والحامِل والمرضِع، ومنها: قَصر الصلاة الرباعيّة، والجَمع بين الصلاتين للمسافِر، وسقوط الصلاة عن الحائِض والنّفَساء، ومنها: عدمُ وجوب الحجّ على من لم يستطع إليه سبيلاً، ومنها: إباحةُ الأكل من الميتَةِ للمضطرّ، الذي أشرف على الهلاكِ، وليس عنده ما يسدّ رَمَقه،
ومن صور اليسر في هذا الدين وسماحته: أن التوبة في الإسلام تجدُها ميسرة، فليس على من أذنب ذنباً ولو كان شركاً أكبر، ليس عليه إلا أن يتوب إلى الله توبة صادقة، فيندم على فعله، ويعقد العزم على عدم الرجوع إلى ذنبه مرةً أُخرى، بينما لو نظرت إلى بني اسرائيل فإنك سترى أن التوبة عندهم لا تكون صادقة حتى يقتل المرءُ منهم نفسه قال الله تعالى لهم: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:54]، وفي النصرانية لا يستطيع الواحد منهم التوبة إلا أن يجلس بين يدي القسيس، فيفضح نفسه بما قدمت يداه، ثم يتوب عليه القسيس، وقد يعتذر، أمّا في الإسلام فلا واسطة بين الله وخلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم
ومن صور اليسر: أن الطهارة ميسرة لكل أحد، وبالماء الموجود في كل مكان، عذباً كان أو مالحاً ، والصلوات خمسٌ في العدد وخمسون في الأجر، وهي لا تأخذ من يوم العبد إلا دقائق معدودة، وهذه الصلوات أباح الله أن تصلى في أي مكان طاهر، ففي صحيح البخاري: (قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ»، ويظهرُ يُسر الدين في الصيام بجعله شهراً في السنة، ويُعذر عنه المريض، ويُعذر المسافر حتى يعود أو يقيم، وتعذر عنه الحامل أو المرضع على التفصيل المعروف، ويظهرُ يُسر الدين في الحج: فلا يكلف به العبد إلا مرةً في عمره، فإن لم يجد الزاد أو الراحلة سقط عنه للعذر، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97]، ويظهر يُسر الدين في الدعاء، فتدعو الله بما شئت، فتطلب الجنة، وتستعيذ من النار، ويظهر يُسر الدين في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ ففي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ». ويظهرُ يُسر الدين في عدم مطالبة المرأة بالجهاد في سبيل الله في معارك دامية، وجعل جهادها في الحج فحسب، وفي عمرها مرة واحدة. والزكاة فُرضت على الأغنياء، ومَن يملكون الأموال وغيرها مما تجب فيه الزكاة، إذا بلغت الأنصبة المحددة، وحال عليها الحول، ولم يلزم الفقراء بها، بل جعلهم ممن يستحقون هذه الزكوات؛ حتى يكون المجتمع أقرب إلى المساواة، وحتى لا يقتصر تداول المال على فئة دون أخرى.
ومِن القواعد الفقهية الأصولية في ديننا: “المشقَّةُ تجلِبُ التيسيرَ”، وهي مِن أوضح الأدلة التي ترفع الحرج عن المكلَّفين في ديننا الإسلامي، فأتباع الإسلام يدركون اليُسْرَ الذي شرعته الملة الحنيفية السمحةُ للمكلفين؛ كيلا يشُقَّ عليهم تكليف، مراعاة لحال المكلَّف في المنشَطِ والمكرَهِ، والضيق والسَّعة، وأبواب اليُسْرِ في دِيننا شمِلَتِ البُعدَ عن التنطُّع والمغالاة في العبادة؛ فلا يحمِّلُ الإنسان نفسه ما لا يطيق، بل يلتزم الوسطية واليسر، فاليُسْر معناه: ترك الإفراط والتفريط؛ فلا تهاون، ولا تنطع أو مغالاة،
ولمكانة الأمة الإسلامية بين الأمم، كان لزامًا على مَن ينتمون إليها أن يضربوا المثَل للعالَمين أجمعين أنهم خيرُ أمَّة، وأنهم بمنأًى عن الغلوِّ والتطرف في الفكر، والقول، والعمل، خاصة في زماننا هذا الذي تُكالُ فيه التُّهمُ للإسلام وأتباعه.
وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن التشدد والتعمق، وأمرهم بأن يكلفوا من الأعمال ما يطيقون، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا. قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قَالَهَا ثَلاَثًا. وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ»
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (فِي الأَمْرِ سَعَة)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما عن هذا الحديث النبوي الكريم، الذي تصدرت به هذه الخطبة: فقد تَعدَّدَت صُوَرُ هَديِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعضِ العباداتِ التي كانَ يَفعَلُها في بَيتِه، وفي اللَّيلِ، مِثلَ صَلاةِ قيامِ اللَّيلِ، والوِترِ، والغُسلِ بعدَ الجَنابةِ، بحَسَبِ اختلافِ أحوالِه، وكلُّها فيها خيرٌ للأُمَّةِ، ولِمَن أرادَ الاقتداءَ بِهَديِه صلى الله عليه وسلم، وأمَّهاتُ المؤمِنينَ رِضوانُ اللهِ عليهنَّ كن يَنقُلنَ للنَّاسِ عِبادةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بيتِه؛ مِن قيامِه اللَّيلِ، ووِتْرِه، وقراءتِه، وكان النَّاسُ يَسألُونهنَّ؛ حتَّى يتَعلَّموا سُنَّتَه صلى الله عليه وسلم، وعندما سئلت عائشةَ رضي الله عنها عن وِترِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”: كيف كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الوترَ؟، وما هو الوقتُ الذي يُوتِرُ فيه؟، قالت عائشةُ رضي اللهُ عنها: “ربَّما أوترَ أوَّلَ اللَّيلِ”، “ورُبَّما”، أي: في أحيانٍ أخرى “أوتَرَ مِن آخِرِه”، أي: يَكونُ وِترُه في آخِرِ اللَّيلِ. ثمَّ سألَها: “كيف كانتْ قِراءتُه” صلى الله عليه وسلم، يَعني: في الصَّلاةِ؛ “أكان يُسِرُّ بالقِراءةِ”، يَعني: هل كانت قِراءتُه سِرًّا، “أم يَجهَرُ”؛ أم تَكونُ قِراءتُه مَسموعةً؟، فقالت عائشةُ رضي اللهُ عنها: “كلَّ ذلك كان يَفعَلُ”، تَعني: ربَّما أسرَّ بالقِراءةِ، وربَّما جهَر بالقراءةِ وكانَت مَسموعةً، وعندما سئلت: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ، فلمَّا سَمِعَ عبدُ اللهِ بنُ أبي قَيسٍ ذلك من عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالَ: «الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَل في الأمرِ» يَقصِدُ في كلِّ ما سألَ عنه، «سَعَةً»، أي: سُهولةً ويُسرًا، ولم يُضيِّقْ علينا.
ومن الحديث نتعلم: بَيانُ تَيسيرِ الشَّرعِ على النَّاسِ في أُمورِ الاغتِسالِ مِنَ الجَنابةِ، وبيانُ ما كانَ عليه السَّلفُ منَ الحِرصِ على السُّؤالِ في أُمورِ دينِهم، وتَتبُّعِ أفعالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأقوالِه، وأحوالِه، وفيه: بيانُ أنَّ الدِّينَ يُسرٌ لا عسرٌ، وقد بيَّن ذلك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بهَدْيِه وسُنَّتِه.
فحريٌ بالمسلم أن يكون متخلقاً بيسر هذا الدين، فيكون سهلاً سمحاً، كما هو دين رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ففي الصحيحين: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – أَبِي وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَلَى الْيَمَنِ فَقَالَ «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا»، وكان صلى الله عليه وسلم يتمثل اليُسرَ في حياته، ومعاشرته، وفي دعوته، وبيعه وشرائه، وفي كل معاملاته، وفي صحيح البخاري: (عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- :«رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى سَمْحًا إِذَا قَضَى».
الدعاء