خطبة عن (لطائف ووقفات مع سورة القصص
مارس 10, 2018خطبة عن اسم الله (الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ)
مارس 10, 2018الخطبة الأولى ( قصة أَصْحَاب الْأخدود دروس وعبر)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان ..ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام .. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وكشف الله به الغمة .. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في كتابه العزيز : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الاعراف 176، فالهدف والمقصود من القصص القرآني ، هو التفكر والاعتبار والتدبر ، واستخلاص الدروس والعبر من أخبار السابقين، والاستفادة من نجاحات الآخرين أو اخفاقاتهم ، واليوم -إن شاء الله- موعدنا مع: (قصة أَصْحَاب الْأخدود ) ، وقد أشار الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز إلى هذه القصة في آيات معدودة من سورة البروج ،وبشكل مختصر، وذلك على طريقة القران في الإيجاز ، وعدم الخوض في التفاصيل ، فقال الله تعالى : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (1) :(11) البروج ،كما جاء في الحديث النبوي مزيد بيان وتوضيح لهذه القصة وتفاصيلها ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ. فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ».
أيها المسلمون
هكذا يتبين لنا أن قصة أصحاب الأخدود هي قصة فئة آمنت بربها، واستعلت بإيمانها أمام أعداء جبارين مستهترين بحق الإنسان في التمتع بدينه الحق، وقد جعلت هذه الفئة المتجبرة الناس ألعوبة يلعبون بهم كيفما شاءوا، وأغرقوهم بالسحر والشعوذة، ولكن كما قيل: رجل عنده همة يحيي أمة ، فكانت هداية الجماهير على يد غلام، تمكن الإيمان من قلبه ، غلام نور الله بصيرته ، وآتاه من الإيمان والثبات ، والذكاء والفطنة ، ما استطاع به أن يغير حال أمة بأكملها ، وأن يزلزل عرش ذلك الطاغية المتجبر ، الذي ادعى الألوهية من دون الله ، ومن خلال تدبرنا لهذا الحديث ، نلاحظ حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إبهام الأشخاص، فلم يحدد لنا اسم القوم، أو المكان الذي وقعت فيه القصة، وذلك حرصا منه عليه الصلاة والسلام أن تنصرف العقول إلى الأشياء المهمة فقط، ألا وهي: العظة والعبرة. – وفي الحديث مواساة للصحابة الذين كانوا يعذبون على أيدي الكفرة من قريش، فهم ليسوا أول من عذب على طريق الدعوة. – كما نلاحظ في حرص الساحر على أن يعلم غلاما مكانه لأنه كبر سنه، وفي هذا إشارة إلى: حرص بطانة السوء أن تبقي الأوضاع كما هي مستقرة لمصلحة الملك، وهذا أمر مشاهد في كل زمان، وفيه إشارة إلى رغبة السحرة المتعاونين مع الشياطين على إفشاء السحر فيما بين الناس. – وفي طلب الساحر للغلام: دلالة على أن الكيد لعنصر الشباب ليس بالأمر الجديد، فيطمسوا على فطرتهم السليمة السوية، ومحاولة إغراقهم في وحل الشياطين والسحر. لقد أراد الملك والساحر أن يكون الغلام هو الذي يثبت دعائم الحكم للملك الظالم، وأراد الله أن يكون الغلام هو خير داعية إليه، وإلى دينه، وأن يهز الله به عروش الظلمة، فحكم الله نافذ لا محالة ، فسخر الله لذلك الغلام راهبا، ليعلم الناس أن قدرة الله نافذة، مهما خطط الطواغيت وكادوا لأهل الإيمان، كما أن وجود الراهب في المجتمع الموبوء يدل على أن كل عصر لا يخلو من الصالحين. – ونلاحظ أن هذا الغلام يستخدم الأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الله: وهي خدمة الناس، فلا بد للداعية أن يخالط الناس ويصبر على أذاهم ويخدمهم. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ الَّذِى يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِى لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ». رواه ابن ماجة وصححه الألباني ورفض الغلام لهدايا جليس الملك يدل على صدق دينه وزهده في الدنيا، ولأنه أدعى لمحبة الناس له وقبولهم لدعوته، فالزهد مما في أيدي الناس سبب لمحبة الله – وفي رد الغلام على جليس الملك بأنه لا يشفي إنما يشفي الله: فهو بذلك يعرف الجليس على الله، وهذا واجب الجميع فالإسلام ليس للشيخ فقط كما يظن الناس ،فالطبيب داعية، والمهندس داعية، والمحاسب داعية، والمدرس مهما كانت المادة التي يدرسها داعية. -وقد استغل الغلام حاجة الجليس إليه ودعاه إلى الله، وفي هذا دليل أن الإنسان إذا كان محتاجا لشيء فإن استجابته تكون أسرع. ولو نظرنا إلى مسلمي أفريقيا اليوم وقد تنصر منهم الآلاف، وكيف استغل المبشرون حاجتهم للمال والطعام ، فاستغلوهم أبشع استغلال لاتباع باطلهم. بينما لم يجدوا أحدا من أغنياء المسلمين ينفق عليهم ولو القليل. -كما نلاحظ أن الداعية الناجح المؤثر سرعان ما يكون لكلامه الأثر البالغ، لأن الإيمان كامن في النفوس، وموافق للفطرة، ولكن يحتاج إلى من يحرك هذا الإيمان ، فهذا جليس الملك بمجرد دعوته من الغلام أعلن إسلامه. -ونلاحظ أنه لم يخبر الغلام جليس الملك أن لا يدل عليه، لأنه يريد من الدعوة أن تنتقل إلى المجال العلني، حتى يسمع الناس بها فيدخلوا في دين الله ، ودخل الإيمان في قلب جليس الملك سريعا، وتمكن منه، وما أروع الإيمان عندما تخالط بشاشته القلوب ، وقد تحول الجليس من عدو لله إلى داعية إليه، ومن عابد للملك إلى عابد لرب الملك، وفيه ذكرى لنا أن لا ييأس المسلم من دعوة أحد، فقد سجل الإسلام نماذج رائعة: خالد بن الوليد، عكرمة بن أبي جهل وغيرهم الكثير ، في كل عصر ، وفي كل مصر. – وقد اختار الجليس أن يبدأ دعوته بأعتى رجل، وهذا يدل على أن الإيمان بالله واليوم الآخر يولد عند المسلم شجاعة وحبا للآخرة. – وقد يضعف رجل العقيدة عن احتمال الأذى ، ويبوح بأسرار لا يجوز البوح بها ، ولكن: من شدة العذاب، فالجليس دل على الغلام، والغلام فيما بعد دل على الراهب، والكل فيهم معذور، وعلى الدعاة أن يعذر بعضهم بعضا ، إن حل بهم مثل ما حل بهؤلاء.
وفي هذه النهاية المأساوية للمؤمنين تنبيه للمؤمنين والدعاة أن أمر الدعوة والعقيدة يتولاه الله، فلربما لا يشهد الدعاة النصر، فأنت عليك أن تزرع ، والله عليه الثمر، ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد ، ولم يؤمن به أحد ، وما قصر النبي في دعوته أبدا ، ولكنه قدر الله للدين والعقيدة وأهلها، وقد سجل القرآن أن من الأنبياء من قتل في سبيل دعوته وعقيدته، فلسنا بأفضل من الأنبياء. – وعلى المؤمن أن لا يستهين بأحد وهو يدعو إلى الله، فهذا الغلام الذي في نظر الناس لا وزن له، ولا يلتفت إليه، قد أحيا الله به أمة كاملة، وهكذا يا أيها الدعاة ،وهكذا يا أئمة المساجد، لا تستهينوا بأحد فقد يكون له شأن كبير. ولقد أجرى الله الكرامة على يد طفل رضيع تحمله أمه، والنيران مشتعلة أمامها ، فتخاف من الوقوع فيها، وصلابة دينها وقوة عقيدتها لا تسمح لها بالكفر. إنها لا تخاف على نفسها من النار، ولكن حنان الأم الذي يجعل حياة الولد مقدمة على حياة الأم، إنه ثمرة الفؤاد. ولكن ينادي الطفل وينطق بأمر الله، ويأمر أمه بالصبر لأنها على الحق، ولأن اجتماع الأهل والأحبة عند ملك الملوك خير من اجتماعهم عند ملك عادل في الدنيا بما فيها من المنغصات والمصائب، فكيف إذا كان الاجتماع عند ملك ظالم لا يستطيع المسلم أن يفعل أدنى شعائره الدينية في مملكته. إذن فالذهاب عند الله أفضل، فقد هان الموت على الطفل، ونطق بأمر الله، وربما رأى الكفار هذه الكرامة من الله ، ولكن أنى لقلوب مثل الحجارة أن تلين لذكر الله وآياته، فجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا. وكم تكلم الناس على مر الأجيال عن قصة الغلام، وهذا الطفل الرضيع، وكم وقف العلماء أمام هذه القصة دراسة وتحليلا، كم استخلصوا منها العبر والمواعظ والدروس ، فلقد خلد الله ذكراهم بكل خير وجعل من حياتهم عبرة يهتدي بها أهل الإسلام، ويقتبس منها الدعاة الدروس والعبر ، فماذا تركت لنفسك بعد موتك؟، وهل سيذكرك الناس بالخير أم بالشر؟، وهل سيبقى لك ذكر أم أن ذكرك سيموت بموتك؟
أيها المسلمون
فهذه القصة تحمل في ثناياها معاني عظيمة ، وفوائد جليلة، وأفكارا بناءة، لو ذهبنا نستقصيها ونتعمق فيها لاستخرجنا منها دروسا مهمة في التربية، والثقة بالله، وتصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة، وتجلية الحقائق التي قد تغيب عن النفس أو الغير.. فمن هذه الدروس: أولا: أهمية تربية الأبناء : فبطل هذه القصة غلام “كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم”: غلام آمن بالرحمن، وواجه الطغيان، وأصر على إبلاغ الحق ـ ولو بذل من أجل ذلك روحه رخيصة ـ حتى آمن على يديه أبناء قومه.. وهذا مما يجعلنا نهتم بتربية أبنائنا وتنشئتهم تنشئة إيمانية صحيحة عسى أن يكون منهم من يجدد لأمتنا دينها، أو يقودها للنصر على أعدائها. ثانيا: أن لكل فرعون سحرة، وسحرة كل زمان بحسبه: وهؤلاء السحرة والحواة هم بطانة السوء وشلة المنتفعين الذين يلتفون حول الملك أو الفرعون أو الطاغية، يسبحون بحمده، ويزينون فعله، وينافقونه لأجل تحصيل منافعهم، ثالثا: تعليق نفوس المدعوين بالله وحده: فقد كان الغلام مما يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي المرضى بإذن الله.. وكان إذا طلب منه أحد الشفاء قال: “أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته لك فشفاك” ، رابعا: الثقة التامة بالله تعالى : فعندما أمر الملك زبانيته بأخذ الغلام وإلقائه من فوق الجبل ـ إن أبى الرجوع عن دينه، فكان دعاؤه: “اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت”، ثقة كاملة بالله، واستغناء كامل بقدرته، وتوكل تام عليه وحده.. خامسا: الإصرار على تبليغ دعوته: فقد أنجى الله الغلام من الموت مرتين، وفي كل مرة يعود إلى الملك بنفسه ليبلغه الحق ويدعوه للإيمان، لم يهرب ولم ينسحب، بل أخبره بنفسه عن السبيل الوحيد لقتله، فأسلم نفسه للموت والقتل من أجل إظهار الحق.. سادسا: تصحيح مفهوم الانتصار والخسارة: فالخسارة الحقيقية ليست في موت الداعية، وإزهاق الظالمين لنفوس المؤمنين، وإنما الخسارة الحقيقية أن ترتد عن دينك، وأن تنكص على عقبيك، وأن تتخلى عن مبادئك، أو تتنازل عن الحق، أو تهادن الباطل ، لقد مات الغلام ولكن آمن القوم، وقتل القوم وحرقوا ولكن كانوا ثابتين على إيمانهم؛ فأدخلهم الله الجنة، وشهد لهم بأنهم فازوا الفوز الكبير
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قصة أَصْحَاب الْأخدود دروس وعبر)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان ..ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام .. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ونواصل الحديث عن الدروس والعبر من قصة أصحاب الأخدود: سابعا: الدعوات لا ينصرها إلا التجرد الكامل: فقد قال الشيخ لتلميذه: “أنت اليوم خير مني وإنك ستبتلى. فإن ابتليت فلا تدل علي”.. وخُيـِّر التلميذ بين حياته وبين دعوته فاختار بمنتهى الأريحية أن يموت هو لتحيا دعوته، ثامنا: الابتلاء طريق ممتد وملحمة لا تنتهي: فسنن الله في الدعوات وفي الخلق عموما لا تتغير ولا تتبدل، فلابد أن يبتلى العباد ليعلم الصادق من الكاذب، وأهل الإيمان من أهل الزيغ والكفران ، قال تعالى : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الانفال (37) ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . محمد(31) ، فلسنا أول أمة تعالج الرزايا والبلايا ثم تطالب بالثبات على الحق والمكافحة من أجل إعلاء كلمه الله ، وإنما القاعدة أن الابتلاء أول طريق النصر، وآخره الوصول إلى الجنة، قال الله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة (214) ،تاسعا: الكفر ملة واحدة، والظلم أخو الكفر: وهؤلاء وهؤلاء لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا مانع لديهم من ارتكاب أفظع الجرائم، وابشع صور التنكيل والتعذيب من أجل فتنة المؤمنين وردهم عن دينهم، أو اختيار أقصى صور القتل للتخلص منهم في حال صبرهم على عقيدتهم وعدم مهادنة ومداهنة الظلم.. عاشرا: الإيمان جذوة لا تخمد، وشمس لا تغيب: فمتى غربت عن أرض قوم أشرقت في أرض غيرها، وإذا داهم ظلام الليل قوما، فإن ضوء النهار يزيل ظلام الليل عن قوم آخرين ويبقى نور الله لا ينطفئ أبدا. وإن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد النصر ، ألا وهي أن الانتصار الحقيقي هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة ، وأن الحياة الدنيا وما فيها من المتاعب والآلام ليست هي الميزان الذي يوزن به الربح والخسارة ، لقد انتصر هذا الغلام عدة مرات في معركة واحدة وموقف واحد ، انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور ، وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ، متخطيا جميع العقبات ، ومستعليا على الشهوات ، ومتاع الحياة الدنيا ، وانتصر عندما تحقق ما كان يدعو إليه وما قدم نفسه من أجله ، وانتصر عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، وانتصر عندما خلد الله ذكره في العالمين ، وجعل له لسان صدق في الآخرين
أيها المسلمون
ومن فوائد قصة أصحاب الأخدود:- أن الله عز وجل قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله الكفار على المؤمنين، فقتلوهم، وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، فالله تعالى له في هذا حكمة، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4]. والمصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، رفعة لدرجاتهم، وتكفيرًا لسيئاتهم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله مكرًا بهم، واستدراجًا لهم، وسيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]. – وأن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئًا واحدًا، وهو أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي يُنكر عليه” – وأن النار أعظم ما يعذب به، ولذا حرم في الإسلام التعذيب بالنار، فلا يعذب بالنار إلا ربها ،– قال القرطبي – رحمه الله -: “قال علماؤنا: أعلم الله- عز وجل – المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية ما كان يلقاه من وَحَّدَ قبلهم من الشدائد يؤنسهم بذلك، وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، روى الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ” ، وروى ابن ماجه في سننه عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: “أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم أَنْ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ” . ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد، ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك، ويكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق” . – ومنها : حلم الله العظيم على عباده، فمع أنهم قتلوا أولياءه وأحبابه وأحرقوهم بالنار، إلا أنه يدعوهم إلى التوبة، قال الحسن البصري – رحمه الله -: “انظروا إلى هذا الكرم والجود! قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة” ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ [البروج: 10].
الدعاء