خطبة عن (من مواقف الرسول مع الصحابة العدول)
مارس 31, 2018خطبة عن حديث (لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا)
مارس 31, 2018الخطبة الأولى ( قصة السامري وعبادة العجل. دروس وعبر)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان ..ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام .. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة ،وأدى الأمانة ونصح للأمة ،وكشف الله به الغمة .. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) (83): (98) طه
إخوة الإسلام
يقول الله تعالى في كتابه العزيز (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الاعراف 176، فالهدف والمقصود من القصص القرآني ، هو التفكر والاعتبار ، واستخلاص الدروس والعبر ، والاستفادة من نجاحات الآخرين أو اخفاقاتهم .واليوم إن شاء الله موعدنا مع قصة من قصص القرآن الكريم ،ألا وهي قصة : ( السامري وعبادة العجل ) ، فقد أتى على المصريين القُدامى حينٌ من الدهر ،صرفهم فيه الكهنة عن التوحيد، ووجَّهوهم إلى عبادة الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يجنون من وراءِ ذلك أرباحًا طائلة، وثرواتٍ ضخمة ،وكان مما عبدوه في تلك الأحقاب: العجل (أبيس) وهو عجل يَمتاز بصفاتٍ نادرة تجعل الحصول على مثله أعسر الأمور. وقد برعوا في الفنون السحرية براعةً تتحدى وصف الواصفين، مما جعل فرعون يتحدَّى بها مُعجزات السماء، حين رأى أنَّ سحرته يسحرون أعينَ الناس ويسترهبونهم، ويخيلون إليهم أنَّ الحبال والعِصِيَّ تتحرك، وتسير وتسعى، ولقد غره ذلك منهم، حتى ظن أنَّ في وسعهم أن يغلبوا موسى – عليه السَّلام – على أمره، أو يغضوا من قدر معجزاته، ولكن الله أفسد كيدَهم، وأبطل سحرهم، فانقلبوا صاغرين، وأُلْقِيَ السَّحَرة ساجدين. ولقد بلغ من براعتهم في الفنون السحرية: أنَّهم أقاموا تِمْثالين عَظِيمين غربي النيل تلقاءَ مدينة الأقصر بمصر، وهما تِمثالا (ممنون)، وجَهَّزوهما بأجهزة علمية دقيقة تعمل بقوة تَمدُّدِ الهواء بالحرارة، فكانا يصيحان بأصواتٍ عالية مدوية ،كلما أشرقت عليهما الشمس ، وغمرتهما بأشعتها الذهبية . وقد أقام بنو إسرائيل في مصر منذ دخلوها في عصر يوسف – عليه السَّلام – واتَّصلوا بالمصريين، وتعلموا منهم علومهم، وعبدوا آلهتهم، وعكفوا معهم على أصنامهم، وكان المصريُّون يُسخِّرونهم في أشقِّ الأعمال وأحقرها، ويكلفونهم بأشقِّ الصناعات وأحطها، ولما جاء موسى – عليه السَّلام – لينقذهم – بأمر الله – من ظلم فرعون وطغيانه وعسفه، وجبروته وبطشه، وواعدهم ليلةً يخرجون فيها جميعًا من هذه البلاد ، إلى فضاء الحرية الفسيح، واحتالت كل امرأة منهنَّ على جارتِها المصرية، وطلبت منها حليها؛ لتتحلى به، فلم يبخلن عليهن بشيء مما طلبن. سار موسى وقومه، مشرقين مولين وجوههم شطر طور سيناء، وعلم فرعون بخروجهم، فأسرع في حشد جنوده، وسار في أثر بني إسرائيل يريد أنْ يُعيدهم؛ لِمَا يترتب على خروجهم من اضطراب الأعمال في معاملهم ومصانعهم ومزارعهم، فأدركهم عند شاطئ البحر، فأمر الله موسى أن يضربَ البحر بعصاه، فانفلق فكان كلُّ فِرْقٍ كالطَّود العظيم، فسار موسى وقومه في طريقهم، وتبعهم فرعون وجنوده، ولكن البحر بعد خروج موسى وقومه أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من الهالكين.
أيها المسلمون
يقول الله تعالى : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) (51) البقرة، فقد واعد الله – جلت قدرته – نبيه موسى أربعين ليلة، يُلقي عليه فيها التوراة، فترك موسى قومَه لأخيه هارون ،يرعاهم ويأمرهم وينهاهم، قال الله تعالى : (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (142) الاعراف ، ولم يكد موسى يُفارقهم لميقات ربِّه حتى تحركت الوثنية في نفس رجل منهم، يقال له : (السامري)، فَطَفِقَ يُذكِّرهم بمعبودهم الذي تركوه في مصر، وهو العجل (أبيس)، ولم يكونوا أقلَّ منه تشبثًا بالوثنية، فإنَّهم بعد أن اجتاز بهم موسى – عليه السَّلام – البَحْرَ طلبوا منه ذلك ، قال تعالى : (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (138) الاعراف ،فقد صادف إغراء السامري لهم هوًى في نفوسهم، فحنت إلى عبادته، وكان السامري رجلاً صواغًا، فطلب إليهم أنْ يعطوه ما أخذوا من زينة القوم؛ ليصوغ لهم تِمثالاً للعجل يعبدونه، فأجابوه إلى ما طلب، فصاغ لهم تِمثالاً للعجل جَهَّزه بجهاز خاص يتوصل به إلى إحداث صوت كخوار العجل، وأبرزه لهم ،قال تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) (88) طه ،هكذا قال لهم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى)، فاتخذوه إلها لهم، يرقصون حوله ،ويفرحون ، ويقولون : لقد نسي موسى ربه أي ـ العجل ـ عندنا، وذهب يسأله وهو هاهنا! ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وتقدست أسماؤه وصفاته. وقد قال الله تعالى ،مبيناً بطلان ما ذهبوا إليه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} طه 89،. وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} الأعراف 148. فذكر الله سبحانه لهم أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جواباً، ولا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا يهدي إلى رشد، اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم، عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال.
أيها المسلمون
وقد ذهب بعض المفسرين قائلين : (إنَّ السامري رأى جبريل وهو قادم لدعوةِ موسى لمناجاة ربِّه، وكان يَمتطي فَرَسًا، فأخذ قبضةً من التُّراب الذي وَطِئته أقدام هذا الفرس، ووضعها في الذهب المنصهر، فسَرَتْ فيه الحياة، فلَمَّا صاغ منه عجلاً، كان عجلاً حيًّا ذا لحم ودم، هكذا قالوا، والنص القرآن الصريح يُخالف الذي قالوا، فالقرآن لم يترك كلمة “عجل” بغير تعقيب، بل عقب عليها بقوله: ﴿ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ﴾ [الأعراف: 148]، فدل هذا التعقيب على أنَّ العجل لم يكن عجلاً حقيقة، وأنَّه لَم تكن فيه حياة، وإنَّما هو جسد بغير روح؛ لأنَّ العجل الحقيقي جسد وروح، وهذا الذي أخرجه السامري جسد فقط له صوت كخوار البقر، ولا يُمكن أن يكون ما قال بعض المفسرين صحيحًا؛ إذ لو كان صحيحًا، لكان السامري خالقًا؛ لأنَّه أوجد كائنًا حيًّا ذا روح ولحم ودم، والخلق من خصائص رب العالمين – جل شأنه – وقد نفى الله – سبحانه – الألوهية عن سواه بعدم القُدرة على الخلق، فقال – تعالى -: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17].وقال الله تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [النحل: 20]، وقال الله تعالى -: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [الأحقاف: 4]، وقال الله تعالى -: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11]. ولقد كان من الممكن أنْ يتتبع السامري سير الفرس، ويجمع كل التُّراب الذي وَطِئته حوافرُه، ويحتفظ به؛ ليضعَ ذراتٍ منه على كل ما يريد صنعه من الذَّهب أو الفضة أو الرَّصاص أو الحديد أو الطين أو الصلصال؛ ليخلقَ حيوانًا أو طيرًا أو إنسانًا، ثم يدعي الألوهية أو الرِّسالة وسيتحدَّى من ينكر ألوهيته أو رسالته بقُدرته على الخلق والإيجاد، ويرى ذلك آيته البينة ومعجزته التي لا تنكر ) . ، يقول أبو مسلم الأصفهاني : ” ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :” هذا الذي ذكروه [ يعني ما ذهب إليه جمهور المفسرين من رؤية السامري فرس جبريل ] ، لا يوجد في كتب الإسرائيليين ، ولا ورد به أثر من السنة ، وإنما هي أقوال لبعض السلف ليس عليها دليل ، فإذا صرفت هذه الكلمات إلى معان مجازية كان معنى:( بصرت ) أي علمت واهتديت ، أي اهتديت إلى علم ما لم يعلموه ، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل ، وعلم الحيل الذي أوجد به خوار العجل ، وكانت ( القبضة ) بمعنى النصيب القليل . وكان ( الأثر ) بمعنى التعليم ، أي الشريعة ، وكان ( نبذت ) بمعنى : أهملت ونقضت ، أي : كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة ، فانخلعت عنها بالكفر . وبذلك يصح أن يحمل لفظ ( الرسول ) على المعنى الشائع المتعارف ، وهو من أوحي إليه بشرع من الله وأمر بتبليغه ، وكان المعنى : إني بعملي العجل للعبادة ، نقضت اتباع شريعة موسى . والمعنى : أنه اعترف أمام موسى بصنعه العجل ، واعترف بأنه جهل ، فَضَلَّ ، واعتذر بأن ذلك سولته له نفسه . ، وعلى هذا المعنى فسر أبو مسلم الأصفهاني ، ورجحه الزمخشري بتقديمه في الذكر على تفسير الجمهور ، واختاره الفخر الرازي “وعلى كل حال ، فلسنا بصدد الترجيح بين الأوجه السابقة ، بقدر ما نقصد إلى بيان تعدد الإجابات والآراء والأقوال ،
أيها المسلمون
وبعد أن ذكرت لكم بعض آراء العلماء والمفسرين ،واختلافهم في تفسير قوله تعالى : (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (96) طه ، نعود إلى متابعة أحداث القصة : فقد أخبر الله – تعالى – موسى – عليه السَّلام – بما كان من فتنة قومه، وإضلال السامري لهم، وارتدادهم إلى عبادةِ العجل، فرجع موسى إلى قومه غضبانَ أَسِفًا، ولما رجع موسى عليه السلام إليهم، ورأى ما هم عليه من عبادة العجل، ومعه الألواح المتضمنة التوراة، ألقاها ، قال الله تعالى : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) الأعراف 150، وأقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح ،فاعتذروا إليه، بما ليس بصحيح، قالوا: إنهم تحرجوا من تملك حلي آل فرعون وهم أهل حرب، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم، ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار، مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار!. ثم أقبل نبي الله موسى عليه السلام على أخيه وخليفته في بني إسرائيل هارون عليه السلام ، قال الله تعالى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (150) الاعراف ،وقال الله تعالى على لسان نبيه موسى : (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (92) ،(93) طه ، فاعتذر إليه أخوه هارون واستعطفه ، فقال الله تعالى على لسان نبيه هارون : (قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (94) طه ، وقال له: لقد قلت لهم مِنْ قَبْلُ (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (90) طه ، ، فقالوا: (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) طه (91) ، والتفت موسى إلى السامري، وقال له: ما خطبُك يا سامري؟ قال: إنِّي أدركت ببصيرتي ما لم يدركوه، وفطنت إلى ما لم يفطنوا إليه، فحين رأيتك تدعوهم إلى عبادة إله لا تدركه الأبصار ولا تلمسه الأيدي، وهم لم يألفوا ذلك من قبل، وكان ذلك سيصرفهم عن العبادة، نبذت هذا الجزء من تعليمك، وأخرجت لهم هذا الإله؛ حتى يعودوا إلى العبادة، كما كانوا يفعلون في مصر، وكذلك سَوَّلت لي نفسي؟ فلم يناقش موسى، عليه السلام السامري في ادعائه، إنما قذف في وجهه حكم الحق. (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) طه 97. فقد حكم موسى على السامري بالوحدة في الدنيا، يقول بعض المفسرين: إن موسى دعا على السامري بأن لا يمس أحدا، معاقبة له على مسه ،ما لم يكن ينبغي له مسه ،ونرى أن الأمر أخطر كثيرا من هذه النظرة السريعة. فإن السامري أراد بفتنته إضلال بني إسرائيل ،وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم، وقد جاءت عقوبته مساوية لجرمه، لقد حكم الله عليه بالنبذ والوحدة، ونحن لا نعرف ماذا كان من أمر الأسلوب الذي تمت به وحدة السامري ،ونبذ المجتمع له. وكل ما نعرفه ،أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة، كان أهون منها القتل، فقد عاش السامري منبوذا محتقرا ،لا يلمس شيئا ،ولا يمس أحدا ،ولا يقترب منه مخلوق. هذه هي عقوبته في الدنيا، ويوم القيامة له عقوبة ثانية، يبهمها السياق لتجيء ظلالها في النفس أخطر وأرعب ،نهض موسى بعد فراغه من السامري ،إلى العجل الذهب ،وألقاه في النار، فلم يكتف بصهره أمام عيون القوم المبهوتين، وإنما نسفه في البحر نسفا، فتحول الإله المعبود أمام عيون المفتونين به إلى رماد يتطاير في البحر، وارتفع صوت موسى بالتوحيد ، قائلا : (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) طه 98، هذا هو إلهكم ،وليس ذلك الصنم ،الذي لا يملك لنفسه نفعا ، ولا ضرا ،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (قصة السامري وعبادة العجل.دروس وعبر)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان ..ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام .. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة ،وأدى الأمانة ونصح للأمة ،وكشف الله به الغمة .. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وبعد أن نسف موسى الصنم، وفرغ من الجاني الأصلي، التفت إلى قومه ،وحكم في القضية كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهم ،وترك لعبدة العجل مجالا واحدا للتوبة، وكان هذا المجال هو أن يقتل المطيع من بني إسرائيل من عصى ، قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌلَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) البقرة 54، لقد كانت العقوبة التي قررها نبي الله موسى على عبدة العجل مهولة، ولكنها تتفق مع الجرم الأصلي، فإن عبادة الأوثان إهدار لحياة العقل وصحوته، وهي الصحوة التي تميز الإنسان عن غيره من البهائم والجمادات، وإزاء هذا الإزهاق لصحوة العقل، تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجسد نفسه، فليس بعد العقل للإنسان حياة يتميز بها. ومن نوع الجرم جاءت العقوبة. جاءت قاسية ثم رحم الله تعالى وتاب. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) ،وأخيرا ، سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب ، قال تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) (154) الاعراف، فتعبير القرآن الكريم الذي يصور الغضب في صورة كائن ،يقود تصرفات موسى، ابتداء من إلقائه لألواح التوراة، وشده للحية أخيه ورأسه، وانتهاء بنسف العجل في البحر ، وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا. أخيرا سكت عن موسى الغضب. زايله غضبه في الله، وذلك أرفع أنواع الغضب وأجدرها بالاحترام والتوقير. ثم التفت نبي الله موسى إلى مهمته الأصلية حين زايله غضبه فتذكر أنه ألقى ألواح التوراة ، فعاد موسى يأخذ الألواح ، ويعاود دعوته إلى الله ، قال الله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) الاعراف (154)
أيها المسلمون
ومن الدروس المستفادة من هذه القصة : أولا : أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرف وناعق، ثانيا : كيف واجه موسى عليه السلام هذا الموقف العظيم؟، وكيف كان غضبه لله عز وجل، ثالثا : ومن الدروس العظيمة: أنه ليس أي شخص أتى بأي خارقة من الخوارق اتبعناه، لأنه خرق لنا العادة ،وأرانا شيئاً عجيباً ما رأينا مثله. رابعا : الحذر من شخصيات كشخصيات (السامري) ، والتي عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب القلوب ،وتحير الألباب . خامسا : أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ،يجب ألا يصاب بخيبة الأمل ،عندما يرى انتكاساً خطيراً قد حصل في قومه، سادسا : أنه يجب التأكيد على عدم التعلق بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، فلو كان التعلق بشخصية الداعية ،فيعني أنه متى ما غاب الداعية عن المدعو فإن المدعو ينتكس؛ لأنه متعلق بشخصية الداعية، فينبغي أن نربط الناس بالمنهج ،لا بالأشخاص .. بالكتاب والسنة ، لا بزيد وعمرو.. ونربط الناس بدين الله سبحانه وتعالى، حتى إذا غاب الداعية ،بقي المنهج موجوداً حياً في قلب المدعو، فيستمر على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ،والالتزام بهذا الدين، سابعا : مراعاة أدنى المفسدتين، فبقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه من عندهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ، ودرءاً لها فيبقى، فكان بإمكان هارون أن يتخذ إجراءً حاسماً ،ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، ولكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة ،لعل الله أن يهديهم، ويحاول فيهم حتى يرجع موسى، ويبقى على الحق الأصلي ،حتى يرجع موسى، ويبقى على توحيد الله عز وجل ،والدعوة إليه . ثامنا : أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم ،لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون، تاسعا : طريقة موسى في عتابه لهارون عليه السلام، فقد غضب موسى عليه السلام ، ولكن ما كان غضبه لشخصه ، وإنما كان يغضب لله، فموسى عاتب هارون بشدة ،ولكن لما اعتذر هارون ،واسترحم موسى، قبل موسى عذره، وقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي) [الأعراف:151] ، ولم يصر على وضع الخطأ كله على هارون، عاشرا : عدم الخلط بين المسئوليات والعاطفة عند المحاسبة، فلم يقل موسى: هذا أخي فحصل خير.. ولأنه أخي فلا أحاسبه، بل حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة، فينبغي في مسألة المحاسبة في موقع المسئولية محاسبة أهل المسئولية وعدم الخلط بين ما ينبغي أن يفعل هنا، وبين مسألة العواطف والقرابات والصحبة.. ونحو ذلك قال تعالى : (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام:152]. الحادي عشر : بقاء السامري معذب، ليكون عبرة ، وحتى لا يسول لأي أحد أن يعمل عملاً مثل هذا ،وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً ، لا يقترب أحد منه. الثاني عشر: أنه ينبغي أن تقبل النصيحة ،ولو كان فيها شدة، يقول موسى لهارون : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) [الأعراف:142] الثالث عشر : (لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ )، ففي مسند أحمد (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِى الْعِجْلِ فَلَمْ يُلْقِ الأَلْوَاحَ فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ ».
الدعاء