خطبة عن قوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)
يوليو 20, 2019خطبة عن التمكين في الأرض (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)
أغسطس 10, 2019الخطبة الأولى ( قواعد ونصائح تربوية لأولي الألباب في تربية الأولاد )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) التحريم 6، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري : (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ – قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ – وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ »، وروى الترمذي في سننه (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ ».
إخوة الإسلام
لقد قدمت لنا السنة النبوية المطهرة ، صورة واضحة ، وبينة جلية ، لقواعد تربوية عظيمة ، تساعد الأسرة والمربين على حسن تربية الأبناء ، فلا يخفى علينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كالأب لكل الصحابة، بل ولسائر الأمة، ففي سنن النسائي :(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ»، فكل أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية وأدب، وكذا أقواله وأمره، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ». فالقاعدة الأولى في تربية الأولاد : رب ولدك على كبير المعاني ،وصحيح المعتقد ،ولا تخش من قلة فهمه لها في وقتها: فكثير من الناس يتعجب من عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، كيف أصبح غلاماً فقيهاً مفسراً بحراً يدخله عمر مجلسه على أشياخ بدر، فيقولون لعمر: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟» فَقَالَ عمر: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَاه مَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا 2} [النصر: ١، ٢]؟ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا؟ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا 3} [النصر: ٣]، قَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ. فلم يُفتح لهذا الفتى إلا لسبب في تربيته، وما من شيء إلا بسبب، وأجل هذه الأسباب بعد توفيق الله له دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه وهو صغير، ففي الترمذي ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) . والمتأمل لهذا الكلام الذي يقال لهذا الغلام ، وهو ربما لم يتجاوز من عمره التاسعة ،أو العاشرة ، ربما لا يفهمه بعض أساتذة الجامعات اليوم، فما الداعي أن يسمع طفل مثل كلمة «لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء»؟ إن الداعي هو التربية، وبناء شخصية الطفل على كبير المعاني ،وضخامة الحدث، فيشب مهتماً لذلك ،وقلبه معلق بمعالي الأمور، والأخلاق، لا بحقيرها وسفسافها، ومثل ذلك ما كان يفعله عروة بن الزبير بن العوام مع أبنائه ،كما روى هشام بن عروة قَالَ: كَانَ أَبِي يَجْمَعُنَا، فَيَقُولُ: «يَا بَنِيَّ، كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ وَإِنَّا الْيَوْمَ كِبَارُ قَوْمٍ، وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ صِغَارٌ وَإِنَّكُمْ سَتَكُونُونَ كِبَارَ قَوْمٍ إِنْ بَقِيتُمْ، وَإِنَّهُ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ لا عِلْمَ لَهُ»، فهذا أيضا كلام من شأنه أن يجعل همة الطفل عالية، وتشوفه إلى طلب العلم والسؤدد متجدد، وأمر واجب أن نزرع في الطفل كبار المعاني وعظيمها في الوقت نفسه الذي يرى فيه والده مشوباً بهذه المعاني الكبيرة، كي نحصد فيما بعد شخصية عظيمة تنفع الإسلام والمسلمين.
أما القاعدة الثانية في تربية الأولاد : تربيتك لولدك تكون بقدوتك له: وهذا ما جعل أغلب المجتمع، إلا من رحم ربي، يعاني انفصاماً في شخصيته، لوجود اصطدام واضح أمام الطفل ، بين التوجيه النظري ،والفعل العملي ، من قدوة الطفل المتمثلة في شخصية والديه ،أو معلميه ،أو حتى شيوخه، فمسألة القدوة وتطابق التوجيه النظري مع ما يفعله القدوة عملياً أمر في غاية الخطورة في حياة الطفل، وهو ما جعل طفلاً كابن عباس رضي الله عنهما، يتربى على السلوك القويم ،والنفسية الملتزمة في السر والعلن، إذ لما بات ليلة عند خالته ميمونة ،ونام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته ، رأى من ليل النبي صلى الله عليه وسلم واقعا عملياً ،ما يأمر به الناس نظرياً، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري (عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَهْىَ خَالَتُهُ قَالَ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّى ، فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي ، وَأَخَذَ بِأُذُنِي بِيَدِهِ الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْتَرَ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ) ،فالتربية بالقدوة ، هي قمة القواعد التربوية على الإطلاق، وهي تمنح الطفل اتزانا نفسياً، واحتراماً لمربيه وما يربيه عليه ، وقد ذكر الخطيب البغدادي في ترجمة وكيع بن الجراح، في تاريخ بغداد، عن إبراهيم بن وكيع، قال: كان أبي يصلي الليل، فلا يبقى في دارنا أحد إلا صلى، حتى إن جارية لنا سوداء لتصلي! فالحذر الحذر، فطفلك يراقبك دون أن تشعر أيها القدوة، وتلاحظ ذلك حين راقب عبد الله بن عباس كل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام ففعل مثلما فعل تماماً، والطامة الكبرى ، حين يراك طفلك ، أو تلميذك ، أو مريدك ، دون أن تشعر ، وأنت ترتكب خطأ ما ، قد أمرته بضده، فسيصاب هذا الطفل بصدمة كبيرة ، وخيبة أمل في أبيه ، أو معلمه ، أو شيخه ومربيه ، وربما سأله ببراءة عن فعله، ألم تقل لي أن ذلك الفعل كذا وكذا؟ ثم يقلده بعد ذلك، ثم في مراحل عمرية متقدمة لن يحترمه أو يطيع أمره مطلقاً! فاستقامة الأب، أو المعلم والمربي ، في السر والعلن، تعتبر أفضل وسائل التربية فبالقدوة الطيبة للطفل ، تعطي للأب والمربي مصداقية عند أبنائه أو تلاميذه من العسير أن يجد لها الطفل عدلاً!
أما القاعدة الثالثة في تربية الأولاد : مراعاة حاجة الطفل النفسية للعب واللهو: وهذه القاعدة ليست نقيض القاعدة الأولى، بل هي الكفة التي توازنها، فكما أننا نعطي الطفل جرعات التربية على معالي الأمور، فكذلك نراعي حاجته للهو واللعب، بل ونغض الطرف أحياناً عن تقصيرهم في بعض الأمور من أجل هذه الحاجة، وأعرّج ههنا على ما أخرجه الإمام مسلم: قَالَ أَنَسٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ، لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: يَا أُنَيْسُ، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ، قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ، هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا». فهذا حديث عظيم القدر جداً في تربية الأطفال، فأنس في ذلك الوقت كان صبياً صغيراً، ربما لا يتجاوز عمره الثامنة، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر، أن يذهب ليقضي له حاجة ما، فقال له أنس: «والله لا أذهب»، وفي نفسه أن يذهب. فهو طفل، كأي طفل، ربما يغضب من كثرة الأمر والنهي، أو من مجرده، ولا يقدر حاجة الأب لهذا الأمر، فلما انصرف أنس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ليرى صبياناً يلعبون في السوق ربما ليشاركهم أو ليشاهدهم، وهذه حاجة الطفل، ولا شك ولا ينبغي أن يعاقب عليها أو يحرم منها بلا سبب، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكه من رقبته، من خلفه، وهو يضحك له. سبحان الله، وههنا تحليل رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعل أنس رضي الله عنه في غاية العجب، إذ الناس في مثل هذا الموقف، غالباً، على ضربين: فإما، أن يضرب ويعنف ويوبخ أمام الناس، لعدم امتثال الطفل لأمره، وهذا إفراط، وإما الآخر، وهو التفريط، فيذهب الأب بنفسه لقضاء حاجته، ويترك الطفل بلا توجيه! أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم الأمة الرحمة، والتوسط، والاعتدال في التربية والتوجيه، فلم يعنف، ولم يذهب هو بنفسه، بل ذهب لأنس، ضاحكاً مبتسماً، مراعياً حاجة الطفل وعناده أحياناً، وسأله سؤالاً استفهامياً، بعد أن ناداه ترخيماً: «يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟»، فصلى الله وسلم على المربي.
القاعدة الرابعة في تربية الأولاد : تربية الطفل على الحلال والحرام والأخلاق : فحين تقرأ في الدراسات الحديثة للتربية ، تجدهم يقولون : إن كلام الأم مع طفلها وهو في بطنها يكون له من الأثر الإيجابي عليه بعد ذلك، بل إن من الدراسات ما تحدث عن تمييز الجنين للأصوات التي تغضب الأم وتشعرها بالاضطراب، فلا عجب إذا في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري : ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ»، والحسن في ذلك الوقت كان طفلاً صغيراً ،ربما لم يكمل عامين أو ثلاثة ، ولكن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه يدل على التأكيد على تدريب الطفل على الحلال والحرام والورع أيضاً، وكذا باب الأخلاق العامة، كما في حديث عمر بن أبي سلمة ،( قال: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ» رواه البخاري، فانظر إلى قول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه: « فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ »، يعني ما زال يواظب على طريقة الأكل هذه، منذ أن نبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه نتيجة تربية النبي صلى الله عليه وسلم له، وتأديبه إياه، ولا يوجد أجمل من ذلك في آداب الأخلاق العامة على الطعام، أن يأكل الإنسان مما أمامه ،ومما يليه ، ولا ينهض ليأخذ من هنا وهناك، فيسيء إلى نفسه ،وربما يتضرر من هو جالس معه ، ويتقذر منه من حضر. وهناك أيضاً، صورة جليلة من السنة من صور تربية الأطفال على الأخلاق، وهي حفظ أسرار البيت والأسرة، وهذا مما تعلمه أنس رضي الله عنه، كما في الصحيحين وغيرهما، قَالَ: انْتَهَى إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي غِلْمَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدَيَّ، فَأَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ، وَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَارٍ أَوْ فِي جِدَارٍ حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَتَيْتُ أُمَّ سُلَيْمٍ، قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرِسَالَةٍ، قَالَتْ: وَمَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: «احْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ»، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ بَعْدُ أَحَدًا قَطُّ . فهذا مما فهمه أنس أو قال له النبي صلى الله عليه وسلم إنه سرّ، كما جاء في بعض الروايات: «أَسَرَّ إِلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ سِرًّا»، بل وأكدت عليه أمه، أم سليم، قَالَتْ: «احْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ»، وههنا لطيفة مهمة ينبغي التنويه عليها، وهي أن تكون البيئة والمجتمع المقرب حول الطفل ،ممن يحرصون على تأكيد ما يتربى عليه الطفل من محاسن الأخلاق، فكثير من الآباء والأمهات أو الجد أو الجدة أو العمة أو الخال أو الخالة ، يشكون من المدرسة ، وكذا وسائل الإعلام ، أنهم ربما يهدمون ما يبنون داخل أطفالهم من آداب وخلق، وكذلك ربما يذهب الطفل إلى أحد أقربائه فيتلو عليه عكس توجيه الأب والأم له، فيحدث عند الطفل نوع من عدم الاكتراث لأوامر وتوجيهات الأب أو الأم بعد ذلك، تدبر قول أم سليم «احفظ سرّ رسول الله» لم تقل له: بل أخبرني ماذا قال لك، أو إنه ليس بسر، أو لا مانع لو أخبرتني أو أخبرت أباك، بل أكدت على خلق حفظ الأسرار وكتمانها. فليحرص الآباء والمربين على توجيه أطفالهم وتلاميذهم دائماً في كل فرصة، وفي كل وقت، على الحلال والحرام والآداب، والأخلاق، ويكرسوا من وقتهم من أجلهم، بل وجب عليهم أن يقتطعوا من أوقاتهم ليجلسوا مع أبنائهم من أجل ذلك، وهذا أولى وأثمن في الدنيا والآخرة من جمع الأموال لهم وإنفاقها عليهم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قواعد ونصائح تربوية لأولي الألباب في تربية الأولاد )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
أما القاعدة الخامسة في تربية الأولاد : الرحمة : فما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالرحمة؛ قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، الأنبياء 107، فلا يصلح شيء من التوجيه والتربية ، ولا يفلح ، إلا بالرحمة، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: «قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». وكان صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال رحمة بهم، كما في صحيح البخاري : (عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مَعَ أَبِى وَعَلَىَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « سَنَهْ سَنَهْ » . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهْىَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ . قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ ، فَزَجَرَنِي أَبِي . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « دَعْهَا » . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَبْلِى وَأَخْلِقِي ، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِي ، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِي » . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ . يَعْنِى مِنْ بَقَائِهَا)، ومعنى أبلي وأخلفي.. دعاء بطول البقاء للمخاطب فتطول حياته حتى يبلى الثوب ويخلف غيره وهكذا. وقد خفف صلى الله عليه وسلم الصلاة مرة من أجل بكاء طفل ، كي لا يشق على أمه ،فقد روى البخاري : (أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ » ،وحمل صلى الله عليه وسلم أمامة بنت ابنته زينب في الصلاة وهو إمام، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، ففي البخاري (عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يُصَلِّى وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا . وكان صلى الله عليه وسلم يُجلس أسامة بن زيد على فخذه ،والحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يقول: «اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا»، كما في البخاري (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ – رضى الله عنهما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى ، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ « اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا » ، وكان أبو عمير أخو أنس رضي الله عنه، له عصفور يلعب به، فمات ذلك العصفور، فكان يداعبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» ، فقد روى البخاري : (عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ – قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ – وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا) ، فما أصلحت القسوة أمراً قط ، وما كان هناك خير من الرحمة والرفق واللين وإن تأخرت النتائج، وفي صحيح مسلم : (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ »
الدعاء