خطبة عن (العدل) من أخلاق المسلم
فبراير 2, 2019خطبة عن حديث (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ)
فبراير 2, 2019الخطبة الأولى ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (266) البقرة
إخوة الإسلام
لقد كان من عادة العرب استعمال الأمثال ، لأنها أبلغ في توصيل المطلوب إلي السامع ، فتَضرِبُ العربُ الأمثالَ لإيصال فكرةِ الموضوع الذي من أجله يُضرب المثل للناس، بأقربِ طريق، وأقلِّ وقت، وأوضح صورة، وأبلغ مقال . ولكن من الملاحظ أنَّ أمثال القرآن الكريم لم تقتصر على ما كان يفهمه ويتداوله العربُ من ضرب الأمثال، بل كان ما عند العرب جزءًا من أمثال القرآن الكريم، وليس كل شيء .ولقد صرَّف الله تعالى في القرآن الأمثالَ للناس؛ زيادةً في التأكيد والتفصيل والإيضاح، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]. وجاءت آيات القرآن الكريم لتؤكد أنَّ الأمثال الصريحة الواردة في القرآن، إنما هي من أجل التفكُّر؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]، ثمَّ بعد كثرة التفكر بالأمثال ،يحصل للمتفكر أمرٌ آخر هام ،ضُربَت من أجله الأمثال، وهو التَّذكُّر؛ قال تعالى: ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 25]،فليس ثَمَّ تذكُّرٌ مِن دون سابقة تَفكُّر، وبعد التفكر والتَّذكر يحصل العلم المؤدي للفقه، وهو الفهم الصحيح لمضرب الأمثال؛ قال الله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].
أيها المسلمون
واليوم إن شاء الله حديثنا عن مثل من تلك الأمثال التي وردت في القرآن الكريم ،وهو قوله تعالى :(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (266) البقرة ،يقول (السعدي) في تفسيره : (وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى ، من صدقة ، أو غيرها ، ثم عمل أعمالا تفسده، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات، وخص منها النخل والعنب لفضلهما ، وكثرة منافعهما، لكونهما غذاء ،وقوتا ،وفاكهة ، وحلوى، وتلك الجنة فيها الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له، بل هم كل عليه، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن، وكذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب ،فلو علم الإنسان ،وتصور هذه الحال ،وكان له أدنى مسكة من عقل ، لم يقدم على ما فيه مضرته ،ونهاية حسرته ، ولكن ضعف الإيمان ،والعقل ،وقلة البصيرة، يصير صاحبه إلى هذه الحالة ،التي لو صدرت من مجنون لا يعقل ،لكان ذلك عظيما ، وخطره جسيما، فلهذا أمر تعالى بالتفكر وحثَّ عليه، فقال الله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) البقرة (266)
ويقول الإمام البصري: هذا مثل قلّ والله من يعقله: شيخ كبير ،ضعف جسمه ،ووهن عظمه، وكثر أولاده وصبيانه ، فهو أحوج ما كان لجنّته ،فجاءها إعصار فيه نار فاحترقت ، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. وهذا المثل هو في غاية الحسن ، ونهاية الكمال كما يقول العلامة النيسابوري ، فيقول: لا يخفى أنه أبلغ الأمثال ،لأن الإنسان لو كان له حديقة في غاية الجمال والكمال ،وكان في غاية الاحتياج إلى المال ،وقت الشيخوخة والكبر ،مع وجود الأولاد الصغار ،فإذا أصبح ووجد بستانه محترقاً ، كم تكون حسرته ودرجة الألم في قلبه؟! فهذا مثل يدل على الحسرة العظيمة.
أيها المسلمون
وقد روى البخاري في صحيحه : (قَالَ عُمَرُ – رضى الله عنه – يَوْمًا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ) قَالُوا اللَّهُ أَعْلَمُ . فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لاَ نَعْلَمُ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَفْسِى مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ عُمَرُ يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضُرِبَتْ مَثَلاً لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَرُ أَيُّ عَمَلٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ غَنِىٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ )
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وما زال حديثنا موصولا عن قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (266) البقرة ، وقد قيل : أن هذا المثل ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس ، ونظير هذا المثل قوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) البقرة 264، فكذلك المنفق ماله رياء الناس ، أطفأ الله نوره ، وأذهب بهاء عمله ، وأحبط أجره حتى لقيه ، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله ، حين لا مستعتب له ، ولا إقالة من ذنوبه ، ولا توبة ، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف – جل ثناؤه – صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوج ما كان إليها فبطلت منافعها عنه . وقال مجاهد : أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله ،كمثل هذا الذي له جنة فمثله بعد موته : كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير ،لا يغني عنها شيئا ، وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئا ، وكذلك المفرط بعد الموت ، كل شيء عليه حسرة . وقيل : هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا : كيف نجى المؤمن في الآخرة ، وذخر له من الكرامة والنعيم ، وخزن عنه المال في الدنيا ، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطع ، وخزن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدا ، ويخلد فيها مهانا ، من أجل أنه وثق بما عنده ، ولم يستيقن أنه ملاق ربه ، فهذا المثل يحمل بين طياته معنى خطيرا ، فقد يكون الإنسان من أهل الصلاح وهو مطمئن لعمله الصالح ، ولكنه يدمره بعمل معصية ،مما توجب سخط الله وغضبه ، فيحبط عمله ، فتكون حسرة عليه، ويكون من الخاسرين ، ومن النادمين حيث لا ينفع الندم .
الدعاء