خطبة عن: من دروس الهجرة (حسن اختيار الصاحب)
يوليو 15, 2023خطبة عن (من دروس الهجرة) مختصرة
يوليو 15, 2023الخطبة الأولى ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (40) التوبة
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ،وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ،وموعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى :(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (40) التوبةقال أبو جعفر ( الطبري) في تفسيرها : هذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم, أعانوه أو لم يعينوه, وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به, وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة, فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟ فإلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسول الله إذا استنفركم فتنصروه, فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره :(إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، بالله من قريش من وطنه وداره :(ثَانِيَ اثْنَيْنِ )، أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين. وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه, لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار. (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) ،إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، (لَا تَحْزَنْ)، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما, فجزع من ذلك, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تحزن “، لأن الله معنا والله ناصرنا, فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.وفي تفسير البغوي “معالم التنزيل”: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، لَمْ يَكُنْ حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ جُبْنًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ إِشْفَاقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: إِنْ أُقْتَلُ فَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ قُتِلْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ حِينَ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَارِ، جَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لك يَا أَبَا بَكْرٍ»؟ قَالَ: أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْك، فَلَّمَا انْتَهَيَا إِلَى الْغَارِ قَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَارَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لتلك الليلة خير من عمر، ومن آلِ عُمَرَ. وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنٍ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».
أيها المسلمون
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) التوبة 40 ، وجاء في اسباب نزول هذه الآية الكريمة: أنه لما رجع رسول الله- صلي الله عليه وسلم- من غزوة حنين بالطائف, أمر المسلمين بالنفير العام لغزوة تبوك, ردا علي تجمع جيوش الروم في أقصي الجنوب من بلاد الشام علي أطراف الجزيرة العربية, وردا علي ما كان هرقل ملك الروم قد قرره من دفع رواتب جنده لمدة سنة مقدما تشجيعا لهم علي مقاتلة المسلمين, وبعد أن انضم لهم عدد من قبائل العرب في شمال الجزيرة إلي قوات الروم, كان منهم قبائل كل من لخم, وجذام, وعاملة, وغسان, وتقدمت القوات الرومانية وحلفاؤها إلي أرض البلقاء من بلاد الأردن الحالية. ومن أجل مواجهة هذه القوات الغازية وحلفائها استنفر رسول الله- صلي الله عليه وسلم- الناس إلي قتال الروم. وكان هذا الرسول القائد- صلوات ربي وسلامه عليه- قلما يخرج إلي غزوة دون التورية بغيرها, إلا ما كان من غزوة تبوك, فقد صرح بها لبعد الشقة وشدة الحر, وكان قد اندس في صفوف المسلمين نفر من المنافقين يحاولون تخذيلهم عن القتال, ويخوفونهم من أعداد وعدة الروم وحلفائهم, ومن طول الطريق إليهم في قيظ مهلك, وندرة للماء والغذاء. وأخذ هؤلاء المنافقون يرغبون المسلمين في حياة الأمن والدعة والمال والظلال, فنزلت هذه الآية الكريمة مذكرة بخروج رسول الله- صلي الله عليه وسلم- من مكة ليلة الهجرة, وقد تآمرت قريش لقتله فأطلعه الله ـ سبحانه وتعالي- علي ما تآمروا به عليه, وأمره بالخروج, فخرج وحيدا إلا من صاحبه الصديق. فنصره الله عليهم, وأخرجه سالما من بين أظهرهم, وقوتهم المادية التي تفوق إمكاناته المادية بكثير, فكانت الهزيمة والذل والصغار من نصيبهم, وكان العز والانتصار لرسول الله وصاحبه, علي الرغم من خلو أيديهم من السلاح, وذلك كي لا يهيب أصحاب الحق أهل الباطل أبدا مهما بلغت أعدادهم وإمكاناتهم المادية لأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله- سبحانه وتعالي- ولذلك فمن توكل عليه حق التوكل وجب له نصر الله, فأولياء الله لا يذلون أبدا لأن الله العزيز قد تعهد لهم بنصره, والله الحكيم يقدر النصر لمن يستحقه. وهكذا تنزلت هذه الآيات تهيب بالمؤمنين أن ينفروا في سبيل الله ، حمايةً للثمرات التي قطفوها ودفعاً للمعتدين عن النيل من هذا الدين ، وتخوفهم من عاقبة التقاعس والتثاقل ، وتتهددهم بالاستبدال إذا هم لم ينفروا إلى قتال الأعداء {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة 39]،وتذكّر المتثاقلين عن الجهاد والمتخوفين من جيش الرومان أن النصر لا يخضع لقانون الأرض ، بل هو من عند الله حصراً مهما كانت الظروف ، ومهما اشتدت الوطأة ، لا يخضع لعددٍ ولا لعتاد ، وإنما يجري وفق وعدٍ صادق {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [ الروم 47]، فتذكّر بالهجرة حيث نجّا القدير سبحانه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وصاحبه من موتٍ مؤكّد ، وحقق له النصر المبين في أحلك الظروف ، وردّ المطارِدين خائبين محسورين {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ} [ التوبة 40].
أيها المسلمون
وتدبّر معي آيات الذكر الحكيم ، وانظر كيف يسمي الله سبحانه وتعالى الهجرة نصراً وهي مطاردةٌ مفزعةٌ لرجلٍ واحدٍ ، ليس معه سوى صاحبه الصديق يؤنسه ويخدمه ، وغايته هي الوصول إلى مكانٍ آمنٍ يستطيع فيه نشر الفضائل والعدل والحق والخير .لقد تألبت عليه مكة كلها ، وعشرات الفرسان المدججون بالسلاح يبحثون في جنونٍ موتورٍ؛ عن رجلين قد هصرهما الجوع والتعب؛ حتى اضطروهما إلى الاختباء في الغار .وفي منطق قوانين الأرض الخاضع للرؤية المحدودة من الصعب جداً أن يكون ثمة نصرٌ في هذه المطاردة الأليمة ، والمحاصرة الشديدة .ولكن القرآن الكريم مع كل ما تقدم يسمي ذلك نصراً إشارةً إلى أنه من أكبر ألوان النصر أن يرجع الأعداء دون أن يحققوا أهدافهم ، فلقد باؤوا بالفشل وأسقط في أيديهم ولم يستطيعوا القبض على صاحب الرسالة بل واصل طريقه حتى بلغ غايته .ولأنها كانت باليقين فاتحة الانتصارات من بعدها ، فقد بدأت مرحلةٌ جديدة حتى تحقق الفتح المبين وذاع ذكر الإسلام في العالمين .ثم انظر كيف يرسم القرآن الكريم المعركة بوضوحٍ بكل عناصرها ومقوماتها ، ويبرز النصر المبين بشكلٍ يدفع إلى اليقين ، أجل إنها لمعركةٌ خطيرةٌ ، لو لم يتحقق فيها النصر لتلاشت السعادة في هذا العالم ، وغاب العدل إلى قيام الساعة .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) التوبة 40 ، فإن لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون ،فقد أظهر الله نصره إياه ،في وقت لم يكن له أحد ينصره ، ويدفع عنه ،وقد تظاهرت عليه الأعداء ،وأحاطوا به من كل جهة ، وذلك إذ هم المشركون به ،وعزموا على قتله ،فاضطر إلى الخروج من مكة ،في حال لم يكن إلا أحد رجلين اثنين، وذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصاحبه وهو أبو بكر: لا تحزن مما تشاهده من الحال ، إن الله معنا ، بيده النصر ، فنصره الله ،حيث أنزل سكينته عليه ، وأيده بجنود غائبة عن أبصاركم، وجعل كلمة الذين كفروا – وهي قضاؤهم بوجوب قتله ،وعزيمتهم عليه – كلمة مغلوبة ،غير نافذة ولا مؤثرة، وكلمة الله – وهي الوعد بالنصر وإظهار الدين وإتمام النور – هي العليا العالية القاهرة ،والله عزيز لا يغلب ،حكيم لا يجهل ،ولا يغلط في ما شاءه وفعله.وإن أحجمتم عن نصرة هذه الدين ،وانشغلتم بالدنيا ،ولم تقدموا على الجهاد ،ولم يكن الدين في حياتكم له وزنًا, فاعلموا أن الله ناصر رسوله ودينه ،وإلا تنصروا محمدا حيًا وميتًا ، فنصره عليه الصلاة والسلام باق إلى يوم الدين, فإن موته عليه الصلاة والسلام لا يعني توقف نصره, فنَصْرُ الله عزَّ وجلّ لحبيبه ومصطفاه كان مِنْ قبل القبل، فقد أيَّده، وأمر الرسل الكرام بإبلاغ صفاته ونعوته لأممهم، وهيأ الكون كله وأمره أن يكون رهن إشارته. فالعبرة التي نحتاج إليها في هذه الظروف الحالكة في حياتنا اليوم، أن نعلم – علم اليقين، ولا نشك في ذلك طرفة عين ولا أقل : أن أي منَّا لو أقبل بصِدْقٍ على الله، وتمسك في سلوكه وهديه وحياته بشرع الله، فلم ينافق ولم يمارِ،ِ ولم يبتغِ بعمله إلاَّ وجه الله، فإن الله عزَّ وجلّ يجعل له قسطاً مِنْ نَصْرِ الله لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، فيؤيده وينصره في أي موقع، وفي أي زمان وفي أي مكان، لأن هذه سُنَّةُ الله التي لا تتبدل ولا تتغير على مرِّ الزمان ولا بتبديل المكان ،فكانت الهجرة نصرا ضد الظلم والطغيان ،وعلى كل مؤمن ان ينتصر لهذه القيم النبيلة ، وأن يهجر الفحشاء والمنكر ، فذلك نصر الله ،ونصر الله يعني تقواه الذي به يهجر كل ما لا ير ضاه الله , فنصر الله التقوى التي تحمل الانسان التزام العدل والحق والاحسان ، كما قال الله تعالى :(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) الحج 37، ونصر الله ألا يتوقف المسلم عند أي أمر أمره به الله، مهما لاقى في سبيل ذلك من صعاب، فالذي أعزَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة عقيدتهم، فكان الرجل منهم لا يبيح لنفسه أن يخرج عن المُثُلِ والمبادئ الإيمانية – قيد أنملة، خوفاً من الله عزَّ وجلّ – مهما تعرض له من صعاب.
الدعاء