خطبة عن حديث (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)
يناير 12, 2019خطبة عن حديث: (سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
يناير 19, 2019الخطبة الأولى ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الأعراف (55)
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله ، وبداية : يقول علماء التأويل والتفسير : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ) ، أي في تذلل واستكانة ،وخشوع وخضوع ، بعيدا عن أعين الناس ، وقيل : بخشوع قلوبكم ، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه ، لا جهارا ومراءاة . وجاء في (التفسير الميسر) : ادعوا -أيها المؤمنون- ربكم متذللين له خفية وسرًّا، وليكن الدعاء بخشوع وبُعْدٍ عن الرياء، إن الله تعالى لا يحب المتجاوزين حدود شرعه، وأعظم التجاوز الشرك بالله، كدعاء غير الله من الأموات والأوثان، ونحو ذلك. وفي تفسير (الوسيط لطنطاوي): والمعنى: سلوا ربكم- أيها الناس- حوائجكم بتذلل واستكانة وإسرار واستتار فإنه- سبحانه- يسمع الدعاء ويجيب المضطر، ويكشف السوء، وهو القادر على إيصالها إليكم، وغيره عن ذلك عاجز. وإنما أمر الله عباده بالإكثار من الدعاء في ضراعة وإسرار، لأن الدعاء ما هو إلا اتجاه إلى الله بقلب سليم، واستعانة به بإخلاص ويقين، لكي يدفع المكروه، ويمنح الخير، ويعين على نوائب الدهر، ولا شك أن الإنسان في هذه الحالة يكون في أسمى درجات الصفاء الروحي، والنقاء النفسي، ويكون كذلك مؤديا لأشرف ألوان العبادة والخضوع لله الواحد القهار، معترفا لنفسه بالعجز والنقص. ولربه بالقدرة والكمال . (وَخُفْيَةً ) أي سرا : قَالَ الْحَسَنُ: بَيْنَ دَعْوَةِ السِّرِّ وَدَعْوَةِ الْعَلَانِيَةِ سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صوت، إن كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ربّهم، ذلك أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، وَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا وَرَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ﴾ [مَرْيَمُ: 3]. ففي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: أحدها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي. وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم؛ لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم، وثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع، الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصودة، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص. وخامسها : أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه، فكلما خفض صوته، كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه. وسادسها : أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ وسابعها : أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه.
وأما قوله تعالى : (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الأعراف (55) ، فالله تعالى لا يحب المتجاوزين حدود شرعه ، وفي سنن أبي داود : (عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعَنِي أَبِى وَأَنَا أَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلاَسِلِهَا وَأَغْلاَلِهَا وَكَذَا وَكَذَا فَقَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ ». فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ. وروى أحمد في مسنده : (عَنْ أَبِى نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ َمِعَ ابْناً لَهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الأَبْيَضَ مِنَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا عَنْ يَمِينِي. قَالَ فَقَالَ لَهُ يَا بُنَىَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْهُ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « سَيَكُونُ بَعْدِى قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ والطَّهُورِ ».
أيها المسلمون
الدعاء عبادة من أجل العبادات ، وفيه قربى إلى الله من أعظم القربات ، ولذلك حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن ، ففي صحيح مسلم (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ ) ، والدعاء عبادة تجمع العبادات كلها ، لأن الغاية من العبادة هو اظهار التذلل والخضوع والاستسلام لله ، والاعتراف بالضعف والحاجة إليه ، والدعاء يجمع ذلك كله ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ » رواه احمد ، فبالدعاء نعترف له بغناه ونقر بفقرنا وحاجتنا إليه ، ونعترف بكرمه وقدرته ورحمته. ومن أعظم ما يجلبه الدعاء إلى الداعي أنه سبب في تحقيق التوحيد الذي به نجاة العبد وفلاحه، وفيه ذوق حلاوة مناجاة الله، والتذلل بين يديه، فإن في الانكسار بين يدي الرب ومناداته ودعاءه لذة لا توصف. قال ابن القيم: «قال بعض العارفين: إنه لتكون لي حاجة إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح علي من مناجاته ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه: ما أحب أن يؤخر عني قضاءها وتدوم لي تلك الحال». والدعاء : يرد القدر والقضاء: لما ثبت في مسند أحمد وغيره (عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ ..) ، والمعنى أن الدعاء كان سببًا في رد القضاء، فالمريض قد يدعو ربه فيشفى بسبب دعائه.
أيها المسلمون
ومن أسباب إجابة الدعاء: بر الوالدين : فبر الوالدين من أعظم الأعمال الصالحة التي يفعلها المسلم، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على بيان فضله وآثاره الحميدة. ولذا كان البار بوالديه أو أحدهما موفقًا للخير دائمًا، محبوبًا عند الناس لما وضع الله في قلوب العباد من محبته وهو مع ذلك قريب جدًا من تحقق إجابة دعائه. ومن أسباب إجابة الدعاء: استحباب تقدم الأعمال الصالحة بين يدي الدعاء: وذلك كالصلاة والزكاة والصدقة والصلة ونحوها من القرب التي تجلب محبة الله للعبد وتقربه منها، فمحبة الله للعبد تعني رضاه عنه وتأييده ونصره واستجابة دعائه. ومن أسباب إجابة الدعاء: الإكثار من نوافل العبادات بعد الفرائض : فكثرة نوافل العبادات بعد الفرائض كصلاة النافلة، وصوم التطوع، والصدقات المستحبة، ونحوها من نوافل العبادات تؤدي إلى إجابة دعاء هذا المتقرب إلى ربه بالنوافل بعد الفرائض، وفي صحيح البخاري : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ .. ) ومن أسباب إجابة الدعاء: استحباب استقبال القبلة عند الدعاء ، واستحباب رفع الأيدي عند الدعاء ، وفي صحيح البخاري : (عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً ، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَرْمِى الْوُسْطَى ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، وَيَقُومُ طَوِيلاً ، ثُمَّ يَرْمِى جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَفْعَلُهُ )
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن أسباب إجابة الدعاء: استحباب إخفاء الدعاء: قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾. فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يجتهدوا في دعائه مع إسرارهم وإخفائه وعدم رفع الصوت به ، وفي إخفاء الدعاء أدب وإخلاص بالغان، يقربان من إجابة دعاء الداعي. ومن أسباب إجابة الدعاء: حضور القلب : فحضور قلب الداعي، من الأسباب التي تقرب من إجابة دعائه، وعموم النصوص تدل على ذلك، كقوله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ الاعراف 56. فإن الدعاء بتضرع وخفية وخوف وطمع يستلزم – ولا بد – حضور قلب الداعي، وهو ظاهر. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ادْعُوا الله وأنتم مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أن الله لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً من قلب غَافِلٍ لاَهٍ» صححه الألباني . ومن أسباب إجابة الدعاء: استحباب تكرير الدعاء والإلحاح فيه: فالإلحاح في الدعاء عين العبودية لله سبحانه وتعالى، وإذا كان الداعي مكررًا وملحًا في دعائه مظهرًا ذله وفاقته وفقره لربه، فإنه يقرب من إجابة الله له، ومن أكثر طرق الباب يوشك أن يفتح له،
أيها المسلمون
ألا فاجتهدوا في الدعاء، فإنه لا يشقى مع الدعاء أحد، وكونوا بالإجابة موقنين، ولا تعتدوا في دعائكم فإنه لا يحب المعتدين ،ونختم حديثنا بما بدأنا به ،قوله تعالى :(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الأعراف (55)
الدعاء