خطبة عن (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)
أبريل 20, 2019خطبة عن التحذير من اللدد والخصومة والجدال (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ)
أبريل 20, 2019الخطبة الأولى ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (7) ،(8) آل عمران
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم . القرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك وموعدنا اليوم -إن شاء الله- مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (8) آل عمران ، ونبدأ بأقوال علماء التأويل والتفسير من سالف الأمة وحاضرها : قال الإمام الطبري : أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنـزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا: ” ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا “، يعني أنهم يقولون ( رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله ): يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك ” لا تزغ قلوبنا “، لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه ” وهب لنا ” يا ربنا ” من لدنك رحمة “، يعني: من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه ” إنك أنتَ الوهاب “، يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك ، وفي التفسير الميسر : ويقولون: يا ربنا لا تَصْرِف قلوبنا عن الإيمان بك بعد أن مننت علينا بالهداية لدينك، وامنحنا من فضلك رحمة واسعة، إنك أنت الوهاب: كثير الفضل والعطاء، تعطي مَن تشاء بغير حساب. وجاء في تفسير السعدى : أي: لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين { وهب لنا من لدنك رحمة } أي: عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات { إنك أنت الوهاب } أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات. وفي الوسيط لطنطاوي قال : اشتملت هاتان الآيتان على دعوات طيبات. ويرى بعض العلماء أن هذه الدعوات من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) ويقولون أيضا ( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ) ، ويرى بعضهم أن هذا كلام جديد، وهو تعليم من الله- تعالى- لعباده ليكثروا من التضرع إليه بهذه الدعوات وأمثالها. والمعنى: نسألك يا ربنا ونضرع إليك ألا تميل قلوبنا عن الهدى بعد إذ ثبتنا عليه ومكنتنا منه. وأن تباعد بيننا وبين الزيغ الذي لا يرضيك. وبين الضلال الذي يفسد القلوب، ويعمى البصائر. (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : وامنحنا من عندك ومن جهتك إنعاما وإحسانا تشرح بهما صدورنا، وتصلح بهما أحوالنا (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) لا غيرك، فأنت مالك الملك وأنت القائل : (ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) فاطر 2، فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت سؤال المؤمنين ربهم تثبيت الإيمان في قلوبهم ومنحهم المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه..
أيها المسلمون
هكذا وصف الله تعالى : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) بأنهم آمنوا بالكتاب كله: محكمه، ومتشابهه؛ لأنه جاء من ربهم الحكيم الخبير، فقالوا:(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) فصدروا دعاءهم بربوبيته تعالى التي هي أفضل وأعلى الغايات، وهو استقامة القلوب على ما يحبه اللَّه تعالى ويرضاه، والثبات على ذلك : فقالوا : يا ربنا، ويا مدبر أمورنا، لا تُمِل قلوبنا بعد الهدى الذي أنعمت به علينا، توسلوا بسابق إحسانه وإنعامه بعد التوسل بربوبيته دلالة على أهمية مطلبهم لربهم، وأنهم في تضرع كبير لهذا المطلب المهم، لا كالذين أزاغ اللَّه قلوبهم من اتباع المتشابه في القرآن ابتغاء الفتنة، فهم ضلوا وأضلوا، والعياذ باللَّه، أما العلماء فقد اهتدوا وهدوا . فتضمّن هذا المطلب الجليل سؤال اللَّه تعالى الثبات على الدين القويم، والصراط المستقيم الذي عليه النجاة في يوم الدين، ولا يكون ذلك إلا بالتوفيق من اللَّه تعالى رب العالمين . ولهذا كان أكثر دعاء نبي الرحمة : (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) رواه الترمذي، وجاء عنه :(اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) رواه مسلم ،ثم قالوا : (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ): فمن جميل تضرعهم وتوسلهم سألوا اللَّه تعالى بلفظ الهبة إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض دون شائبة وجوب عليه ، وسألوا ربهم (رَحْمَةً) بالتنوين والتنكير دلالة على التفخيم والتعظيم ، أي رحمة عظيمة واسعة شاملة التي تقتضي حصول نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب، وحصول الطاعة في الجوارح والأركان . فالرحمة من آثارها التوفيق، والدوام على الهدى في الدنيا، والنعيم الأبدي في الآخرة؛ ولهذا كثرة الأدعية في كتاب اللَّه لهذا المطلب الجليل . وفي قولهم : (مِنْ لَدُنْكَ): جُعلت الرحمة من عنده؛ لأن تيسير الأسباب، وتكوين الهيئات منه جل وعلا تفضلاً وتكرماً، وفيها معاني التعظيم والإجلال للَّه تعالى، وهذا من حسن دعائهم، وأدبهم مع ربهم تبارك وتعالى التي ملأت قلوبهم حباً وتعظيماً له ،وفي قولهم : (إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ) عللوا طلبهم، وأكَّدوه بخصوصية الهبة المطلقة الكاملة للَّه تعالى، التي لايعدّها عادٌّ، ولا يحدّها حادّ، إيماناً منهم بكمال صفاته تعالى، ومن جملتها هباته تعالى؛ لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض اللَّه تعالى من الخيرات شيء لا يُعبأ به. ولذلك قالوا: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) حيث استحضروا عند طلب الرحمة أحوج ما يكونون إليه، وهو يوم تكون الرحمة سبباً للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءهم على سبيل الإيجاز، كأنهم قالوا : (وهب لنا من لدنك رحمة، وخاصة يوم تجمع الناس) فهم قد توسَّلوا إلى ربهم بالإيمان ومنة اللَّه تعالى به، من الوسائل المطلوبة، فيكون هذا من تمام دعائهم) ، وفيه إقرار منهم بكمال صفاته الفعلية؛ لذلك قالوا : (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ)
أيها المسلمون
وتضمنت هذه الآيات الكريمات سؤال المؤمنين ربهم تثبيت الإيمان في قلوبهم ومنحهم المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه.. قال الفخر الرازي- ما ملخصه-: وقال- سبحانه- (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) ليكون ذلك شاملا لجميع أنواعها التي تتناول حصول نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب، وحصول الطاعة في الأعضاء والجوارح، وحصول سهولة أسباب المعيشة والأمن والصحة والكفاية في الدنيا وحصول سهولة سكرات الموت عند حضوره، وحصول سهولة السؤال في القبر، وغفران السيئات والفوز بالجنات في الآخرة. وقوله (مِنْ لَدُنْكَ) يتناول كل هذه الأقسام. لأنه لما ثبت بالبراهين الباهرة أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله «من لدنك» تنبيها للعقل والقلب والروح على أن هذا المقصود لا يحصل إلا منه- سبحانه- ثم قال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) كأن العبد يقول: إلهى هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلى، حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك فلا تخيب رجاء هذا المسكين، ولا ترد دعاءه واجعله أهلا لرحمتك» .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) ، فيه دعاء بطلب الثبات وعدم الزيغ ، والدعاءُ بالثبات افتِقارٌ وعبادة، وبه تحقيقُ الاستِقامة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعُو بالثبات على الهداية ويقول: « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَىُّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ ». رواه مسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابَه الدعاءَ بذلك، قال شدَّادُ بن أوسٍ (رضي الله عنه): (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ »؛ رواه الترمذي. والامتِثالُ لأمر الله بعد المواعِظ من سُبُل الثبات، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66]. كما أن تركَ العمل بعد العلم والموعِظة من أسباب الخِذلان والضلال، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه : لستُ تارِكًا شيئًا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعملُ به إلا عملتُ به، فإني أخشَى إن تركتُ شيئًا من أمرِه أن أزيغ” متفق عليه. والإقبالُ على تلاوة القرآن العظيم وحِفظِه واستِماعه والعمل به من مقاصِد تنزيله، وهو تثبيتٌ للقلب من الزَّيغ، قال الله سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) [الفرقان: 32]، وقال الله سبحانه لهذه الأمة: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل: 102].
أيها المسلمون
وقد تضمنت هذه الدعوات المباركات كثيراً من المنافع والفوائد ، ومنها : – أن العلم باللَّه تعالى هو أشرف العلوم على الإطلاق . – (وأن الرسوخ في العلم هو قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالماً محققاً) – وأن سؤال اللَّه تعالى الثبات على الإيمان هو أعظم مقاصد الشارع المطلوبة. – وينبغي للعبد أن يستحضر دوماً نعم اللَّه تعالى عليه، وخاصة نعمة الدين. – كما أن التوسل إلى اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته، كذلك يتوسل إليه بصفاته المنفية عنه تعالى (إنَّ اللَّه لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ) . وهذا النفي يتضمّن صفات الكمال، ومنها كمال صدقه وقدرته جلَّ وعَلا . – (وأهمية التوسل إلى اللَّه تعالى بنعمه : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا). – (وأنّ الإنسان لا يملك قلبه؛ لأنه بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء، فيسأل اللَّه ألاَّ يزغه). – (وأن التخلية تكون قبل التحلية، يعني يُفرغ المكان من الشوائب والأذى، ثم يطهر، دلَّ عليه قوله: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا) ثم قال: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً).– وأن العطاء يكون على قدر المعطي؛ لقوله تعالى: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)، هذا من باب التوسل بحال المدعو، ومن باب التوسل بصفات اللَّه تعالى – وأن كل الخلق لا غنى لهم عن دعاء ربهم في جلب المنافع، ودفع المضار. وبعد هذا الوصف الجميل لهم، يجدر بالعبد السالك إلى طريق اللَّه المستقيم أن يحرص على هذه الكلمات اليافعات، والدعوات المباركات، ويستحضر هذه المعاني، والمطالب العالية .
الدعاء