خطبة عن قوله تعالى (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)
يوليو 21, 2018خطبة عن حديث: (لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ)
أغسطس 25, 2018الخطبة الأولى (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (12) :(14) المؤمنون ،وقال الله تعالى (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (123) :(126) الصافات ،وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِى لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ »
إخوة الإسلام
في قوله تعالى : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ، وقوله تعالى : (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) ،بيان لعظمة الله في الإيجاد والخلق والتصوير ، وقد جاء في المعجم الأوسط للطبراني : (عن زيد بن ثابت قال: (أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، فقال معاذ بن جبل (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ مم ضحكت يا رسول الله قال بها ختمت (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (12) :(14) المؤمنون ، وقد ذكر العلماء والمفسرون أوجهاً في تفسيرهم لقول الله تعالى : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [ المؤمنون : 14] ، ومن أهمها: الوجه الأول: أن الخلق هنا بمعنى الصنع ،فالمعنى: تبارك الله أتقن الصانعين. الوجه الثاني: أن الخلق بمعنى التقدير ، فإنه سبحانه هو أحسن المقدرين جل وعلا . الوجه الثالث: أن المعنى : أن الله تعالى هو أحسن الخالقين في اعتقادكم وظنكم . الوجه الرابع : وهو أحسنها: أننا نثبت للمخلوق خلقاً، لكنه ليس كخلق الله تعالى. فخلق الله جل وعلا إيجاد من العدم. وخلق المخلوق لا يكون إلا بالتغيير والتحويل والتصرف في شيء خلقه الله تعالى ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين :(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ».. ومن المعلوم أن المصور لم يوجد شيئاً من العدم ، وإنما حول الطين، أو الحجر إلى صورة إنسان أو طير ، وحول بالتلوين الرقعة البيضاء إلى صورة ملونة، والطين والحجر والمواد والورق كلهم من خلق الله تعالى. وأيضا: فالعبد لا يمكنه فعل شيء إلا عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة، والإرادة والقدرة كلتاهما مخلوقتان لله عز وجل، وخالق السبب التام خالق للمسبَّب. ولهذا كان من اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى خالق للعباد وأفعالهم، كما قال ربنا ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) [الصافات: 96] . والحاصل أن الخلق الذي هو الإيجاد من العدم صفة يختص بها الله تعالى، كما قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) [النحل: 17] ، وقال الله تعالى (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 3] .
أيها المسلمون
وقد أثار بعض المبطلين والجاهلين شبهة في قول الله تبارك وتعالى : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون : 14 وقالوا : لقد جاء التعبير بأنّه تعالى (أحسنُ الخالقينَ) في موضعَينِ من القرآن في (المؤمنون : 14 ، والصّافات : 125) ،وذلك ممّا يشير بأنّ هناك خالقينَ سوى اللّه ليكون هو أحسنهم ! في حين أنّه تعالى ينفي بكلّ شدّةٍ أن يكون خالقٌ غيره إطلاقاً ،وأنّه خالق كلّ شيء ،ولا خالق سواه ، فما هو وجه التوفيق ؟ ، وللرد على مثل هذه الشبهة : قال العلماء : إن هذه الشبهة إنما تنم عن ضعف من أوردها باللغة العربية ،وتدل كذلك عن تسرعهم وطيشهم ، فإنهم قد نظروا إلى الآية ،وحكموا عليها ، من خلال النظرة الأولى ، والنظرة الأولى حمقاء ، فإن من له أدنى علم باللغة العربية ،يعلم أن بعضا من الكلمات قد يكون لها أكثر من وجه في الاستعمال ، أو أكثر من معنى ، ويحدد المعنى المراد منها سياقُ الكلام ، ومعنى الجملة ،ومن مثال ذلك : كلمة (خَلَقَ) فهذه الكلمة لها معنيان ، كما جاء في (لسان العرب) ، (وتاج العروس) ، يقول ابن منظور: قال أَبو بكر بن الأَنباري :ـ (الخلق في كلام العرب على وجهين : أَحدهما الإِنْشاء على مثال أَبْدعَه ،والآخر التقدير) ،وقال في قوله تعالى : ( فتبارك الله أَحسنُ الخالقين) المؤمنون : 14: معناه أَحسن المُقدِّرين ، وكذلك قوله تعالى:(وتَخْلقُون إِفْكاً) العنكبوت 17، : أَي تُقدِّرون كذباً وقوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُق لكم من الطين) آل عمران 49،: خَلْقه تقديره ،وبناء على هذا : فإن الخلق منه ما لا ينسب إلا لله وحده ، ومنه ما قد ينسب لله ولغيره من خلقه . وقال صاحب البحر المحيط : والخَلْق يكون بمعنى الإنشاء ، وإبراز العين من العدم ، الصرف إلى الوجود ، وهذا لا يكون إلاَّ لله تعالى . ويكون الخلق بمعنى : التقدير والتصوير ، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه : الخالق ، لأنه يقدّر ، ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون : 14 : أي المقدّرين ،والله عز وجل قد استخدم المعنيين في كتابه الكريم : فقال جل شأنه عن المعنى الأول : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) الرعد 16، وأيضاً قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) النحل 17، فدلت الآيات السابقة على أن الخلق بمعنى الإيجاد والبدء من عدم ،ولا موجد غير الله ، فهذا مختص بالله لا يشاركه فيه أحد ، وقال سبحانه وتعالى عن المعنى الثاني : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون : 14 ،وقوله جل شأنه: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) آل عمران 49، وأيضاً قوله تبارك في علاه : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) المائدة 110، فالمعنى المراد هنا هو التصوير والتقدير ، وهذا ينسب إلى الله كما ينسب إلى خلقه ، فلقد جاء في الشعر العربي كما في زاد المسير لابن الجوزي قول زهير :
ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْـ .. ـضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي
فالمراد ها هنا أن بني آدم قد يصوِّرون ، ويقدِّرون ،ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين ، وخير المقدِّرين ، وقال الأخفش: الخالقون هاهنا هم الصانعون فالله خير الخالقين ،وقال الرازي في تفسيره : يقال: خلق النعل : إذا قدرها وسواها بالقياس ، وبناء على ما ذُكر آنفا : فلا يدل أبداً قوله تعالى (أحسن الخالقين) المؤمنون : 14 على أن هناك من يشارك الله في الإيجاد والبدء من عدم . وذلك لأن الخلق الذي نفاه الله عن غيره ، وأثبته لنفسه فقط ، كما مر في قوله : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) الرعد 16، وأيضاً قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) النحل 17، وهو خلاف الخلق الذي أثبته الله لنفسه ولبعض خلقه كما في قوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون : 14 ، وقوله جل شأنه : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) آل عمران 49، ، وقوله سبحانه (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) العنكبوت 17 ، وذلك أن الخلق الذي أثبته الله عز وجل لنفسه ،وللمسيح عليه السلام في الطير ،وللكفار في الإفك ،هو غير الخلق الذي نفاه عنهم ،وعن جميع الخلق، فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفسه ونفاه عن غيره : هو الاختراع والإبداع وإحداث الشيء من لا شيء ومن العدم إلى الوجود ، وأما الخلق الذي أوجبه الله تعالى لبعض خلقه : فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط ، تقديرا وتصويرا وصنعاً ،دون أن يكون إيجاداً من العدم ، فخلق المخلوق لا يكون إلا بالتغيير والتحويل والتصرف في شيء خلقه الله تعالى . ومن ذلك ما جاء في الصحيحين :(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ »، ومعلوم أن المصور لم يوجد شيئاً من العدم إنما حول الطين، أو الحجر إلى صورة إنسان ،أو طير ،والطين والحجر والمواد والورق كلها من خلق الله تعالى ، ومن ذلك يتبين لنا الرد على مثل هذه الشبهة أن لفظ الخلق واحد ، وله معنيان فالمعنى الذي أثبته الله لنفسه فقط خلاف المعنى الذي أثبته لغيره
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومثال ما نحن فيه من أن المثبت خلاف المنفي مع أن اللفظ واحد ما ذكره الله عز وجل في قوله (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الانفال 17، حيث إن الله عز وجل قد نفى عن نبيه الرمي مع أنه قد أثبته له رمياً بقوله : { إِذْ رَمَيْتَ } فعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء : فابتداؤه الحذف وانتهاؤه الإصابة وكل منهما يسمى رميا فالمعنى حينئذ – والله تعالى أعلم : وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب . ولذلك أجاز العلماء أن تطلق لفظ الخالق على العبد ، إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار ، ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة ، ولا يقول العبد لسيده هو ربي كما جاء في تفسير الرازي عند تفسيره (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون : 14 ،وفي النهاية نقول كل من له عقل يعلم أنه لا خالق لهذا الكون ولا لشيء فيه وجودا من بعد عدم إلا الله عز وجل ، فإذا نسب الخلق لغير الله كان المراد به معنى آخر سوى ذلك ، وإن هذا من مرونة اللغة العربية من حيث معانى الألفاظ ودلالة الأساليب ما يجعل هذا التعبير مستساغا ومقبولا بالمعنى اللائق لكل من يوصف به.
الدعاء