خطبة عن (فضل الله علينا)
يوليو 8, 2023خطبة عن (التسبيح)
يوليو 10, 2023الخطبة الأولى (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى:(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) الانعام (104)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (203) الاعراف، وقال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (20) الجاثية
إخوة الإسلام
إن هذا القرآن الكريم، والذكر الحكيم، لهو بصائر ومعالم للناس، وبرهان في الحدود والأحكام، يبصر به الناس الحق من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد، وهو طريق يؤدي إلى الجنة لمن أخذ به، فهو النور الذى يبصر به القلب هدايته، لأن ما فيه من حجج وبراهين ، تكشف للقلب طريق الحق، كما أن البصر هو النور الذى تبصر به العين طريقها، فالبصيرة هي إدراك العقل للأمور على حقائقها، وكان القرآن بصائر، لأنه يبين للناس الخير والشر، ويحَضهم على الخير، ويحذرهم من الشر، ويعدهم على فعل الخيرات، ويوعدهم على فعل الشرور، فعمل القرآن عمل البصيرة. وجُعل بصائر للناس، لأنه بيان للناس عامة، وهدى ورحمة لقوم يوقنون، ولا يرحم به إلا من اتبعه،
وفي (ظلال القرآن) لسيد قطب يقول: (ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة. فهو بذاته بصائر كاشفة، كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور. وهو بذاته هدى. وهو بذاته رحمة .. ولكن هذا كله يتوقف على اليقين. يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك؛ ولا يخالطها قلق، ولا تتسرب إليها ريبة. وحين يستيقن القلب ويستوثق، يعرف طريقه، فلا يتلجلج ، ولا يتلعثم، ولا يحيد. وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً، والأفق منيراً، والغاية محددة، والنهج مستقيماً. وعندئذ يصبح هذا القرآن له نوراً وهدى ورحمة بهذا اليقين)
والقرآن بصائر: لأنه يحوي بين دفتيه كل ما يعين الإنسان على السير في حياته، ببصيرة نافذة ورؤية واضحة، والإنسان من غير بصيرة القرآن الكريم التي أشار الله تعالى إليها في كتابه يعمى، فيظن أنه يحسن في حياته وهو يسيء دون أن يدري، والقرآن الكريم لا يعطي بصائره إلا من ولاه بالتلاوة والتدبر، ثم شرع في تطبيقه في جميع نواحي حياته. والقرآن لا يقتصر دوره على التعبد فقط ، بل إنه كتاب يحتوي على كل ما يعين الإنسان للعيش في الحياة سعيدًا مهتديًا مأجورًا من الله تعالى.
وهذه البصائر القرآنية الربانية الهادية موجهة للناس جميعا، ولكن هذه البصائر لا تدركها إلّا القلوب الحية، حيث تعيها وتتفاعل معها وترشد بها، وتهتدى على أساسها. إن الأجسام لها العيون التي تبصر بها، وإن القلوب لها البصائر التي تهتدى بها، فالأبصار للأجساد، والبصائر للقلوب، وإذا ما تعطلت أبصار الأبدان، فقد يعيش الإنسان بدونها، ولكن إذا تعطلت بصائر القلوب، فإنها تموت، ولا يبقى فيها نفع أو خير، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: ٤٦].
وهذه البصائر القرآنية الهادية، تستقبلها القلوب المؤمنة، وتفتح لها منافذها وأصداءها، فتزداد أيمانا وهدى واستقامة ويقينا، بينما القلوب القاسية الكافرة الغليظة توصد منافذها أمام هذه البصائر، وتحكم إقفالها دونها، وتبالغ في وضع الأقفال عليها، وأنى لها أن تهتدي بها، إنها تزيد هذه القلوب الكافرة كفرا ورجسا وظلاما وعمى. قال تعالى: (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة: ١٢٤ – ١٢٥].
وتدبّر آيات الكتاب العظيم وفي الكون والأنفس والمجتمعات واجبٌ على كلّ ذي لبّ، حسب قدراته الإدراكية القابلة للتعلّم والتمرين والزيادة. وهو نشاط فكري عقلي وجداني، يجعل الإنسان يسير في رحلة الحياة على بصيرة، يُحسن من خلال ممارسته تدبير معيشته وحياته في الواقع المتغيّر الذي يعيش بمختلف جوانبه الأسرية والاجتماعية والتعليمية وغيرها. كما يُسهم في بناء شبكة العلاقات الإنسانية بين البشر على أفضل وجّه يليق بكرامة البشر على اختلاف أعراقهم
أيها المسلمون
والبصائر القرآنية هي أهم أعمدة النجاة لبناء الحياة، واتقاء المشكلات، والنجاة في الفتن المضلات، وبدونها يقع الإنسان في العمى، ويتردى في الهلاك والبوار ، قال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (31) الحج، وقال الله تعالى:(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) الانعام (104)، وفي صحيح مسلم: (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ ». فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ « وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي». فالوصية بـالقرآن للتمسك به، والوصية بأهل البيت لبرهم ومعرفة حقهم، ما داموا بالكتاب متمسكين، وعند ابن حبان عن أبي شريح الخزاعي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “أبشروا، وأبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟” قالوا: نعم قال: “فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا”
أيها المسلمون
والقرآن الكريم هو البصائر التي تُري الإنسان ما يحتاجه في كل زمان، وأول البصائر التي يحتاجها أن يعرف قيمة القرآن؛ ليستبين له حجم العظمة القرآنية التي تكسو بصائره،
ومن هذه البصائر القرآنية المعرفة بقيمة القرآن الكريم: فالقرآن العظيم هو الرسالة التي أنزلها الله –عز وجل- لسعادة العالمين، وهو برنامج قيادة الإنسانية نحو الهدى، والحق، والخير، وإرشاد الحائرين، وإنقاذ البشرية من الشقاء، والظلم، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]،
والقرآن الكريم هو حبل الله الممدود؛ لإغاثة الإنسان المتعب الجريح المكدود، ليعصمه من الضلال الفكري، والهلاك المعيشي والاقتصادي والحياتي، ولذا قال ابن القيم -رحمه الله-: “وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين، أنزله لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصُّراً، ونسعد به تذكُّراً، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونُصَدِّق به، ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه”.
والقرآن أصل نظام العالم ونُظُمه، وهو العاصم من الضلال والهلاك: فالبصائر القرآنية هي أصل التصور والرؤية الرشيدة، وأساس المناهج الفكرية العملية المؤسسة للحياة السعيدة، وأساس الحضارات والبناءات المجيدة؛ لأنها البيان الدستوري الأعظم.. يجد فيها المفكرون والمثقفون والناس أجمعون ما يعصمهم من التيه والفتن والضلالات الفكرية والعقلية والحياتية، ويتمتع البشر أجمعون بواسطتها بألذِّ متاعٍ ونعيم، قال تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والقرآن الكريم هو بصائر: فهو المقياس الحقيقي لصدق الأقوال والأعمال، وهو ميزان الصحة للأفكار والمشاريع الفردية والجماعية، وهو المعيار المهيمن على الكتب السماوية والتشريعات الأرضية الوضعية، فهو الدالُّ على مدى الثقة بمناهج البشر وتجاربهم الإنسانية، وهيمنتُه العظيمة الدقيقة لا يستطيعها الكُتَّاب، ولا المجامع العلمية الرفيعة الأبواب، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]،
فالقرآن الكريم هو الشاهد للبشرية إن جعلته قائداً لها، لتسلك به صراطاً سوياً، وهو الشاهد عليها إن نبذت تعاليمه ونظمه وراءها ظهرياً، كما ذكر جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ أمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خلف ظهره سَاقَهُ إِلَى النَّارِ» (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).
الدعاء