خطبة عن من أسباب السعادة :الرضا واستخارة الله ،وحديث ( مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ )
ديسمبر 9, 2023خطبة عن ( الطاعة والاستسلام )
ديسمبر 16, 2023الخطبة الأولى ( هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (20) الجاثية
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم . القرآن الكريم : لا تشبع منه العلماء ،ولا تلتبس به الألسن ،ولا تزيغ به الأهواء ، والقرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك
وموعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (20) الجاثية، وتعالوا بنا نبدأ بما قاله علماؤنا الأجلاء من أهل التأويل والتفسير حول معنى هذه الآية : فعند الطبري : يقول تعالى ذكره ( هَذَا ) الكتاب الذي أنـزلناه إليك يا محمد ( بَصَائِرُ لِلنَّاسِ ) يُبْصِرُون به الحقّ من الباطل, ويعرفون به سبيل الرشاد, وعند القرطبي : أي : هذا الذي أنزلت عليك براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام . ويقول الشنقيطي : والمعنى أن هذا القرآن براهين قاطعة ، وأدلة ساطعة ، على أن الله هو المعبود وحده ، وأن ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – حق ، وفي الوسيط لطنطاوي : أثنى الله سبحانه وتعالى – على القرآن الكريم الذى أنزله على نبيه – صلى الله عليه وسلم – والبصائر : جمع بصيرة – وهى للقلب بمنزلة البصر للعين . فهي النور الذى يبصر به القلب هدايته ، كما أن البصر هو النور الذى تبصر به العين طريقها فهذا القرآن الذى أنزلناه إليك – أيها الرسول – الكريم – ( بَصَائِرُ لِلنَّاسِ ) لأن ما فيه من حجج وبراهين ، تكشف للقلب طريق الحق ، كما تكشف العين للإِنسان مساره ، وهو – أيضا – ( هُدًى ) أي : هداية عظيمة إلى الرشاد والسعادة ( وَرَحْمَةٌ ) واسعة ( لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي : لقوم من شأنهم الإِيقان من عند الله – تعالى – ، وبأنك – أيها الرسول الكريم – صادق فيما تبلغه عن ربك . وخص الموقنين بالذكر ، لأنهم هم الذين ينتفعون بحجج القرآن الكريم ، وبهداياته ،وفي تفسير السعدي :أي: { هَذَا } القرآن الكريم والذكر الحكيم { بَصَائِر لِلنَّاسِ } أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة.{ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه ويحصل به الخير والسرور والسعادة في الدنيا والآخرة وهي الرحمة، فتزكو به نفوسهم ،وتزداد به عقولهم ،ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند.
أيها المسلمون
فحين وصف الله تبارك وتعالى كتابه العزيز بهذا الوصف ، فقال تعالى : (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) ، فهو سبحانه وتعالى يعلمنا أن نتوجه إلى هذا القرآن الكريم ، والكتاب العظيم ، حين تختلط علينا الأمور، وحين نريد أن نتبين الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والضلال من الهدى، فهذه الأمور أصبحت متشابكة في واقعنا وفي حياتنا ، وتحتاج إلى بصائر لتجليها . فكلما ازدادت علاقتنا بكتاب الله عز وجلّ ، كلما وضحت وتجلت أمامنا الأمور ، فهذا هو القرآن العظيم، كتاب هداية شاملة للناس، في شؤونهم كلها، الوجدانية العاطفية، والعقلية التفكيرية، والسلوكية العملية، الدنيوية والأخروية، الفردية والجماعية،
وهو بصائر لا مجرد بصيرة، والبصيرة محلها القلب لا مجرد البصر الذي محله العين:
قال الله تعالى : (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (46) الحج
ولم يقف النص عند وصف القرآن بأنه بصائر للناس، بل هو أيضا هدى ورحمة، وهما وصفان من أوصاف كثيرة وردت في حق القرآن، كالنور والروح والفرقان والذكر والشفاء والبركة، والاقتصار هنا على الهدى والرحمة لأن السياق يتطلبهما، حيث الحديث عن أقوام سابقين –خاصة بني إسرائيل- ديدنهم الضلال والحيرة، فكان وصف الهدى مطلوبا، أما الرحمة فهي المآل المرجو من الرسائل كلها، حيث الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض. وذكر القوم الموقنين مهم ،لأن الهدايات والأنوار والآيات لا يفطن إليها أي إنسان، بل الذين يُعمِلون عقولهم، ويتأملون ويتفكرون، فيقودهم هذا إلى اليقين لا مجرد الظن والشك، ولهذا قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (37) ق ، وقال الله تعالى : (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (138) آل عمران ، فللناس بشكل عام هو بيان، بينما لا يهتدي به ويتعظ إلا المتقون أصحاب البصائر واليقين. لذلك فنحن بحاجة إلى هذه البصائر في حياتنا وقد غلب الجهل، وتقدمت العادات على الشرائع، وغلب الهوى على العقل، وكثر الانشغال بالدنيا على حساب الآخرة. نريد بصائر في تعاملنا مع أنفسنا تهذيبا وتقويما وسموا وهمة، وكيف ننشغل بما ينفعنا ونرتقي به، فكم من نفوس ارتقت وهي لا يؤبه لها، وكم من نفوس تردّت وهي التي يُظن بأنها القدوة، فالميزان هو الشرع والتقوى والعطاء، لا موازين البشر القاصرة. ونريد بصائر في تعاملنا مع غيرنا من المسلمين، حيث الأخوة والتعاون والمحبة والولاء وحسن الظن والبعد عن الأنانية والتجريح بأشكاله، فالله وصف المؤمنين بأنهم إخوة، ولا يجوز أن يكونوا غير ذلك وإلا فالإيمان فيه خلل، وحفل القرآن بذكر الحقوق جميعها، الدينية والدنيوية، وعزز مفهوم الإيجابية في العلاقات، ابتداء بالأسرة وانتهاء بالأمة كلها، فكل كلمة وكل حركة محسوبة أنت مسؤول عنها، ولا شك سيكون أحدنا بها إيجابيا معطاء صالحا مصلحا. ونريد بصائر في تعاملنا مع غير المسلمين، برا وإحسانا وحسن تعامل ما لم يكونوا حربيين، فإن كانوا حربيين فلا ولاء ولا مجاملة، ولا بد حينها من إعادة الحقوق ،ولجم الباطل وإيقافه، أما المسالمون فحقوقهم محفوظة، ودماؤهم مصونة، وكذلك أعراضهم وأموالهم، تماما كما هي حرمة دم المسلم وعرضه وماله. نريد بصائر في الفهم والتدبر والوعي، ولا بد لها من سعة الأفق ورحابة الصدر ، وبعد النظر، فدين هذه مبادئه ، شاءه الله للناس كافة، لا بد لمن آمن به ،وعمل من أجله ،من بصائر يهتدي بها، فكان هذا القرآن العظيم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والبصيرة –كما يقرر الخليل-: هي : “نفاذ في القلب”، ونورٌ مضيء فيه ، يمكنه من الاستبصار بحقائق الواقع، أي رؤيتها على حقيقتها، واتخاذ القرارات بناء على ذلك ، ولهذا يقف المبتهلون الضارعون إلى الله متلهفين يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، وينشدون بصائر القرآن؛ لتنير حياتهم فيتألق من أجسادهم نوره يمشون به في الناس، عسى أن يجدوا سبل السلام، ويأخذوا منها أعمدة السعادة في أزمنة الظلام. فالبصائر القرآنية هي أهم أعمدة النجاة لبناء الحياة، واتقاء المشكلات، والنجاة في الفتن المضلات، وبدونها يقع الإنسان في العمى، ويتردى في الهلاك والبوار ، وأعظم مصدرٍ للبصيرة هي الشريعة المطهرة التي يشكل القرآن الكريم عمادها، ولا يمكن أن تسمى البصيرة بصيرةً مطلقاً إلا إذا كانت مستمدةً من شريعة الله النيرة ، قال ابن كثير: “وقَوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على بصيرة من شريعة اللَّه التي أوحاها إلي” والبصائر القرآنية تبني حياة الأمة، وتعيد لها مجدها، وتحقق لها الفلاح والانتصارات النهضوية؛ فالقرآن هو الذي تضمن البصائر المجيدة ،والتي تحقق الانتصارات في المجالات الشخصية، والتحديات الحياتية الأسرية والمجتمعية، فمن أبصر الحياة من خلال هذه البصائر رجع ذلك بالنفع الحقيقي لنفسه، وكانت البصائر القرآنية مصدر سعادته وراحته وطمأنينته وأنسه، والله يبين ذلك بأجمل عبارةٍ فيقول الله تعالى : {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]. إنها البصائر: ولا يمكن للأفراد الرؤية بدونها، ولا يمكن للأمة بدونها إدراك كيفية البناء، ولا تحديد ماهية الأعداء، ولا كيفية مواجهة الاعتداء، ولا التفوق في تحديات السلم والحرب والرخاء، أو الشدة والبأساء، فإذا لم تدرك الأمة بصائر القرآن ،سارت على عمى ،فسقطت في الـحُفَر، أو وقعت أسيرة المنعطفات والمنزلقات والمنحدر، فمن عَمِيَ عن حقائق البصائر يقع في الحفائر، وتتناوشه الآلام والمخاطر. ومن المعلوم أن البصيرة تتفاوت بين أصحابها: فالبصيرة كالبصر في التفاوت، فكما أن الرؤية تتفاوت فكذلك البصيرة، ومن ذلك قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فقد يكون أحدهم أقوى إبصاراً، وقد يكون غيره أعظم بصيرةً، وذلك يرجع إلى كثرة مزاولة الشيء الذي تُستمد منه البصيرة وهو القرآن الكريم مع ما يفتح الرحمن للإنسان من الفهم والرأي والإدراك، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه:96]، “فَالمعنى: علمت ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له”،
أيها المسلمون
إنها بصائر القرآن ،تنير الدروب لبني الإنسان، وتأخذ بيد الحيران إلى المكان الذي يجد فيه السكينة والاطمئنان، ويشعر بحلاوتها صدق الإيمان، وتربية النفس على قوة الإيقان .
الدعاء