خطبة عن اسم الله (الْوَاحِدُ، الأَحَدُ )
فبراير 3, 2018خطبة عن (التورع عن الفتيا، وصفات العالم المفتي)
فبراير 3, 2018الخطبة الأولى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك 15) .
إخوة الإسلام
أخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل الارض ذلولا، منقادة للوطء عليها ،وحفرها ،وشقها ،والبناء عليها ،ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها ، واخبر سبحانه وتعالى انه جعلها مهادا ،وفراشا ،وبساطا ،وقرارا ، وكفاتا ،وأخبر سبحانه وتعالى أنه دحاها وطحاها ، واخرج منها ماءها ومرعاها ، وثبتها بالأوتاد تلك الجبال الراسيات ، ونهج فيها السبل الفجاج ،وطرق السفر ، وأجرى فيها الأنهار والعيون ، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ،ومن بركة هذه الأرض أن الحيوانات كلها أرزاقها وأقواتها تخرج منها ،ومن بركاتها انك تودع فيها الحب فتخرجه لك أضعافا مضاعفة ، ومن بركاتها أنها تحمل الأذى علي ظهرها ،وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها ، فتواري منه كل قبيح ،وتخرج له كل مليح ،ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه ،وتواريها ،وتضمه وتؤويه ميتا ، وتخرج له طعامه وشرابه حيا ،فهي أحمل شيء للأذى ،وأعوده له بالنفع والله سبحانه تعالى يدعونا في هذه الآية الكريمة إلى استخراج ما في الأرض من كنوز وخيرات، فهي مُذَلَّلَةٌ لذلك، ولكنَّه سبحانه وتعالى ، قال: ﴿ فَامْشُوا ﴾ ولم يقلْ فاسعوا؛ ليدرك المؤمنُ أنَّ همته في طلب مرضاة الرازق يجب أن تفوق همَّتَه في طلب الرزق، وأنَّ سعيه للرزق يجب أن يكون في حدود فعل المأمورات وترك المنهيات؛ حتى يسعدَ في الدنيا، ويُبعث يوم القيامة في عدادِ الأبرار، ولذا انتهتِ الآية بقوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ لتشعرَ العبدَ الكسوبَ أنه مسؤولٌ يوم القيامة عن كلِّ ما يجني من رزق: «من أين اكتسبه وأين أنفقه» فيكون طلبه للرزق في إطار وحدود مرضاته للرَّازق، وهذا ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال كما في مسند البزار: (هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ ) ثم نبّهنا تبارك وتعالى بقوله: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ،فنحن على هذه الأرض ، وفي هذا المسكن غير مستوطنين ،ولا مقيمين، بل دخلناه عابري سبيل ،فلا يحسن أن نتخذه وطنا ومستقرّا, وانما دخلناه لنتزوّد منه الى دار القرار, فهو منزل عبور لا مستقر حبور (سرور), ومعبر وممر, وليس وطن مستقر.فتضمّنت الآية الدلالة على ربوبيّته ووحدانيّته, وقدرته وحكمه ولطفه, والتذكير بنعمه واحسانه, والتحذير من الركون إلى الدنيا, واتخاذها وطنا ومستقرا, بل نسرع فيها السير الى داره وجنّته.
فلله ما في ضمن هذه الآية من معرفته وتوحيده, والتذكير بنعمته, والحث على السير إليه, والاستعداد للقائه, والقدوم عليه, والاعلام بأنه سبحانه يطوي هذه الدار كأنها لم تكن, وأنه يحيى أهلها بعدما أماتهم وإليه النشور.وفي ظل هذا التقدم العلمي ، والأقمار الصناعية التي تجوب أرضنا ، أصبح معلوما لدينا ، أن هذه الأرض التي نركبها ونسكنها تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ، ثم تدور مع هذا حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة . ثم تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة ، مبتعدة نحو برج الجبار في السماء . ومع هذا الركض كله يبقى الإنسان على ظهرها آمناً مستريحاً مطمئناً معافى لا تتمزق أوصاله ، ولا تتناثر أشلاؤه ، بل لا يرتج مخه ولا يدوخ ، ولا يقع مرة عن ظهر هذه الدابة الذلول وهي الأرض!وهذه الدابة الذلول التي تتحرك كل هذه الحركات الهائلة في وقت واحد ، فهي ثابتة على وضع واحد في أثناء الحركة يحدده ميل محورها بمقدار23 . 5ْ لأن هذا الميل هو الذي تنشأ عنه الفصول الأربعة مع حركة الأرض حول الشمس ، والذي لو اختل في أثناء الحركة لاختلت الفصول التي تترتب عليها دورة النبات بل دورة الحياة كلها في هذه الحياة الدنيا! والله جعل الأرض ذلولاً للبشر بأن جعل لها جاذبية تشدهم إليها في أثناء حركاتها الكبرى ، كما جعل لها ضغطاً جوياً يسمح بسهولة الحركة فوقها . فلو كان الضغط الجوي أثقل من هذا لتعذر أو تعسر على الإنسان أن يسير ويتنقل حسب درجة ثقل الضغط فإما أن يسحقه أو يعوقه . ولو كان أخف لاضطربت خطى الإنسان أو لانفجرت تجاويفه لزيادة ضغطه الذاتي على ضغط الهواء حوله ، كما يقع لمن يرتفعون في طبقات الجو العليا بدون تكييف لضغط الهواء! والله جعل الأرض ذلولاً ببسط سطحها وتكوين هذه التربة اللينة فوق السطح . ولو كانت صخوراً صلدة – كما يفترض العلم بعد برودها وتجمدها – لتعذر السير فيها ، ولتعذر الإنبات . ولكن العوامل الجوية من هواء وأمطار وغيرها هي التي فتتت هذه الصخور الصلدة ، وأنشأ الله بها هذه التربة الخصبة الصالحة للحياة . وأنشأ ما فيها من النبات والأرزاق التي يحلبها راكبو هذه الدابة الذلول! والله جعل الأرض ذلولاً بأن جعل الهواء المحيط بها محتوياً للعناصر التي تحتاج الحياة إليها ، بالنسب الدقيقة التي لو اختلت ما قامت الحياة ، وما عاشت إن قدر لها أن تقوم من الأساس . والنص القرآني يشير إلى هذه الحقائق ليعيها كل فرد وكل جيل بالقدر الذي يطيق ، وبالقدر الذي يبلغ إليه علمه وملاحظته ، ليشعر بيد الله الذي بيده الملك وهي تتولاه وتتولى كل شيء حوله ، وتذلل له الأرض ، وتحفظه وتحفظها . ولو تراخت لحظة واحدة عن الحفظ لاختل هذا الكون كله وتحطم بمن عليه وما عليه! فإذا استيقظ ضميره لهذه الحقيقة الهائلة أذن له الخالق الرحمن الرحيم بالمشي في مناكبها والأكل من رزقه فيها : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والناس لطول ألفتهم لحياتهم على هذه الأرض؛ وسهولة استقرارهم عليها ، وسيرهم فيها ، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها وقواها وأرزاقها جميعاً . . ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها . والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة ، ويبصرهم بها ، وقد جاء في تفسير ابن كثير في قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أَيْ: فَسَافِرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ، وَتَرَدَّدُوا فِي أَقَالِيمِهَا وَأَرْجَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَعْيَكُمْ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يُيَسِّرَهُ اللَّهُ لَكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فَالسَّعْيُ فِي السَّبَبِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: “لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا”. فَأَثْبَتَ لَهَا رَوَاحًا وَغُدُوًّا لِطَلَبِ الرِّزْقِ، مَعَ تَوَكُّلِهَا عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ المسَخِّر الْمُسَيِّرُ الْمُسَبِّبُ. وفي تفسير السعدي: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}: أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة.
الدعاء