خطبة عن حديث (غَمْسَةٌ فِي الْجَنَّةِ)
يوليو 10, 2024خطبة عن قوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا )
يوليو 15, 2024الخطبة الأولى ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (48) البقرة
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .القرآن الكريم : هو كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ،وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله ، القرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك ، وموعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (48) البقرة ، فقد جاء في تفسير الطبري عند تفسيره لهذه الآية قوله : هذا تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية -عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة, وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا, ولا يجزي فيه والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } يعني : أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصرٌ كما لا يشفع لهم شافعٌ ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها ، وفي الوسيط لطنطاوي قال : بعد أن ذكرهم – سبحانه – في الآية السابقة بنعمة عظمى من نعمه حذرهم في هذه الآية الكريمة من التقصير في العمل الصالح ، وذلك لأن وصفهم بالتفضيل على عالمي زمانهم قد يحملهم على الغرور ، ويجعلهم يتوهمون أنهم مغفور لهم لو أذنبوا . فجاءت هذه الآية الكريمة لتقتلع من أذهانهم تلك الأوهام بأحكم عبارة وأجمع بيان . والمراد باتقاء اليوم ، وهو يوم القيامة ، الحذر مما يحدث فيه من أهوال وعذاب ، والحذر منه يكون بالتزام حدود الله – تعالى – وعدم تعديها ، والمعنى : احذروا – يا بني إسرائيل – يوماً عظيماً أمامكم ، سيحصل فيه من الحساب والجزاء مالا منجاة من هوله إلا بتقوى الله في جميع الأحوال والإِخلاص له في كل الأعمال ، فهو يوم لا تقضى فيه نفس مهما كان قدرها عظيما عن نفس شيئاً ما ، مهما يكن ذنباً صغيراً .
أيها المسلمون
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (48) البقرة ، إن الإيمان بيوم القيامة ، وما سوف يحدث فيه ، أمر واجب، ويجدر بالعاقل الكيس أن يعمل له ويَتَّقيه، ويتهيأ له، ويشغل به أعظم حيز من تفكيره؛ ليتزوَّد له زاده، ويعد له عدته – وهو من أصول الإيمان الستة التي جاءت في حديث سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين ليعلمها لأصحابه، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري : (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ قَالَ : « الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ »، ولن يكون الإيمان بالله واليوم الآخر على وجهه الصحيح، إلا إذا كان الإيمان باليوم الآخر يخيف من أهواله، ويدعو إلى اتقائه، ويبعث على الاستعداد والتهيؤ لما فيه من مثوبة وجزاء من مالك يوم الدين، أحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين سبحانه. فأساس الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بصفات الله إيمانَ يقين وإذعان، لا إيمانَ جدال ومِراء ولسان؛ فإن من صفاته سبحانه العدل والحكمة، والفضل والرحمة، ويستحيل على العدل الإلهي أن يجزي الناس ويثيب العباد كلهم على سواء – فاسقهم ومطيعهم، وبَرهم وفاجرهم، ومصلحهم ومفسدهم – فهذا ينافي العدل أعظم المنافاة؛ قال الله تعالى : ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]، وقال الله تعالى : ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [القلم: 35، 36]، ويَستحيل على العليم الحكيم أن يخلق الإنسان لعبًا، ويَتركه سُدًى كالسوائم التي لا مسؤولية عليها ولا حساب، وقد ميَّزه عنها، وأكرمه وفضَّله عليها، وعلى كثير ممن خلق تفضيلاً؛ ، قال الله تعالى : ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]،وقال الله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85]. ويستحيل على فضله ورحمته وجوده وإحسانه – أن يَدَعَ المتقين الأبرار بدون أن يُثيبهم ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، وبخير ما كانوا يجاهدون فيه ويهاجرون له، ويصبرون ويصابرون، ويرابطون ويصدقون ما عاهدوه تبارك اسمه عليه، وكانوا باعوا أنفسهم وأموالهم له، فقاتلوا عدوه في سبيله، فقتَلوا وقُتِلوا، وقد وعدهم وعدًا حقًّا أن يقبضهم الثمن، ويوفيهم الجزاء الأوفى بأحسن الذي كانوا يعملون، ومن أوفى بعهد من الله؟ ، فقد كان اليهود كغيرهم من الجاهلين والوثنيين من الأمم التي عاشروها وخالطوها من المصريين واليونان وغيرهم يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا، ويشبهون حكم الله سبحانه وقضاءه في الآخرة وجزائها بحكم الملوك والرؤساء من خلقه في الدنيا، وأنه ما دام يمكن الخلوص من حكم الملك وعقوبته في الدنيا بشفاعة نسيب له أو حبيب أو نحو ذلك، فكذلك يمكن الخلوص من عقاب الآخرة وعذابها بشفاعة المقربين عند الله، وتوسط أحبابه لديه في رفع العقوبة عمن يستحقها بعمله في الدنيا، وسعيه بالفساد فيها، وأن أبناء الرؤساء والملوك وأقرباءهم وأحبابهم في الدنيا غير محاسبين بمقتضى القوانين والنظم التي يحاسب ويعامل بمقتضاها عامة الناس، فيسرحون ويمرحون في طاعة أهوائهم وشهواتهم كما يشاؤون لا زاجر ولا رادع، ثم لا ينالهم القانون والنظام بشيء مما ينال غيرهم من الرعية بالعقوبة على مثل ما يأتون من المنكر والشرور والفساد، وما يمنعهم ويحميهم من طائلة القانون والنظام إلا صلتهم النسبية بالملك، أو صداقتهم له وقربهم منه. فزعم اليهود ومن صار على سنتهم – قديمًا وحديثًا – أن شأن الآخرة كذلك، وأن الله سبحانه يعامل عباده على نحو ما يعامل الملوك الناس على اختلاف الطبقات بالهوى والغرض، لا بالعدل والحكمة ولا بالحق والقسطاس المستقيم. وعلى هذه الفوضى الشنيعة يعتمد أهل الكتاب وأشياعهم، وبهذا الاضطراب والاختلال الهمجي يدين بنو إسرائيل وأشباههم، وعلى هذا الأساس المنهار يبني أهل الكتب، ومن سلك سنتهم حياتهم وأعماله وصلتهم بالله، فيقولون متبجحين: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18]، ويقولون: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، ويقولون: ﴿ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111]. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون، وهذا شر ما يدعو إلى الفساد ويحمل على الفسوق والعصيان، ويغري النفس الشيطانية بالإمعان في شهواتها، وقد أمنت العقاب ونجت بأولئك الوسطاء والشفعاء، وتلك الأماني من العذاب، وهذا يهدم كل نظام، ويقضي على كل خلق ودين، ويملأ الدنيا بالشرور والخبائث، ويحيل الإنسان إلى شيطان مريد، فلذلك رد الله تعالى عليهم وعلى أشباههم وإخوانهم تلك الدعاوى الباطلة أشد الرد، فقال الله تعالى : ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111، 112]. وقضى على أمانيهم الكاذبة، وكشف لهم عن تلك الخدع الشيطانية التي غرَّهم بها وأغواهم هو وحزبه، وإن الطائفة عند الله لا قيمة لها، كما أن الأنساب متقطعة، وأن الله مُنزَّه عن الأهواء والأغراض فلا يُحابي أحدًا؛ لأن الكل عنده سواء، عبيد أكرمهم عنده أتقاهم وأقربهم إليه، وأصلحهم عملًا. وأنه سبحانه سيضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئًا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها، وكفى به شهيدًا وحسيبًا؛ قال الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94]،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد خوف الله عباده أشد التخويف من يوم الدين الذي سيقوم الناس فيه لرب العالمين؛ ، فقال الله تعالى : ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [فاطر: 18]، وفي هذا اليوم لا يقبل الله الحكم العدل الشديد العقاب السريع الحساب الذي ليس بظلام للعبيد – من أي نفس ظلمت نفسها، واستحقت غضب ربها وعقوبته على ظلمها وبغيها وعداوتها – شفاعة أحد ممن زعموهم فيهم شركاءَ، وادعوا لهم الشركة مع الله في فصل القضاء، وزعموا أنهم يدخلون من يشاؤون الجنة، ويخرجون من النار من يشاؤون، كذبوا في كل ذلك، قال الله تعالى : ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]. وقال الله تعالى : ﴿ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾؛ أي: لا يجدون من آبائهم أو أبنائهم، أو مواليهم أو شيوخهم أو أوليائهم، لا يجدون لهم من هؤلاء مجتمعين، ولا من واحد منهم على انفراد وليًّا يتوَّلاهم بحفظه ورعايته، ويدفع عنهم عذاب المنتقم الجبار، ولا ينصرهم من الله ويحميهم من سطوته، ويغلبه على عظيم قهره وشديد بأسه.
أيها المسلم
فكأن الآية الكريمة تقول لك : اعلم أنك ستقفُ يومًا بين يدي ربك وحيدًا، وستأتي يوم القيامة منقطعًا فريدًا ، يومئذٍ لا ينفعك ولد ولا والد. ولا ينجيك مالٌ ولا جاهٌ. ولا يغني عنك نسبٌ شريفٌ أو حسبٌ كريمٌ ، تَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْكَ، فَلَا تَرَى إِلَّا مَا قدَّمتَ، وَتَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْكَ، فَلَا تَرَى إِلَّا مَا قَدَّمتَ، وَتَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْكَ فَلَا تَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِك. قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ الانعام 94، في هذا اليوم يفر عنك من كان يتقرب إليك، وينفر منك من كان يرجو رضاك. ولا ترى لك وسيلة تنجيك، ولا سببًا تتعلق به إلا رحمة الله، ثم ما كنت تقدمه لله من عمل. قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ الذاريات 50،. فلا ينفعكم غيره، ولا يغني عنكم سواه.
الدعاء