خطبة عن (طرق الشيطان)
أبريل 17, 2024خطبة عن (تأملات في قصة موسى والخضر)
أبريل 20, 2024الخطبة الأولى ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (54) الكهف
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ،وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، وموعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (54) الكهف ، فقد جاء في تفسير الطبري : ( وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) يقول: وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة، لا ينيب لحقّ، ولا ينـزجر لموعظة. وقي تفسير بن كثير: يقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى اللّه وبصره لطريق النجاة. وفي صحيح البخاري : (أَنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – لَيْلَةً فَقَالَ « أَلاَ تُصَلِّيَانِ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا . فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا . ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ « ( وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) » ، وقال العلامة السعدى : يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن، وجلالته، وعمومه، وأنه صرف فيه من كل مثل، أي: من كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب، اعتقادا، وطمأنينة، ونورا، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة، وعدم المنازعة له في أمر من الأمور، ومع ذلك، كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، ويجادلون بالباطل { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } ولهذا قال: { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } ، أي: مجادلة ومنازعة فيه، مع أن ذلك، غير لائق بهم، ولا عدل منهم، والذي أوجب له ذلك وعدم الإيمان بالله، إنما هو الظلم والعناد، لا لقصور في بيانه وحجته، وبرهانه، وإلا فلو جاءهم العذاب، وجاءهم ما جاء قبلهم، لم تكن هذه حالهم ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجدال علامة الضلال بعد الهداية , ومؤشر الإنحراف عن الجادة , لما يترتب عليه من آثار موبقة ونتائج مهلكة , ففي سنن الترمذي وغيره (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ» . ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ:” مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ” ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل الذي لا تهدأ عنده غريزة الجدال , بل تظل ثائرة لأتفه الأمور، ويشتد في خصومته, ويجادل خصمه حتى يقهره ،بأنه والعياذ بالله الأبغض الى الله , ففي الصحيحين (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ » ، وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذى يصر على الجدال في الباطل رغم علمه به , فقد روى أحمد في مسنده ،قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ ) ، ويدخل في هذا الوعيد ذلك المحامي الذى ينوب عن المبطل ، وهو يعلم أنه مبطل .
أيها المسلمون
فقد يكون الجدال آفة عظيمة وداء عضال إذا تمكن من الانسان ، وأعماهم عن الحق ، فتراهم في مجالسهم ومنتدياتهم وأحاديثهم يتجادلون ويتناقشون ويماري بعضهم بعضا، ولربما ثارت بينهم الخصومات والعداوات بسبب هذا الجدال والمراء.وقد صرح القرآن الكريم بأن الإنسان بطبعه مجادل رغم وجود الحجج والبراهين الدامغة والآيات الساطعة والأمثلة المتعددة: فقال الله تعالى : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]. فالجدال منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود. أما المحمود فهو ما تعلق بإظهار الحق والدلالة عليه والدعوة إليه، وهذا الذي أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] ، أما النوع الآخر من الجدال فهو الجدال بالباطل، وهو أنواع : فمنه ما يكون الهدف منه طمس نور الحق والتشغيب عليه وشغل أهل الحق عنه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]. ، وأخبر الله عن هذا الصنف من الناس بقوله تعالى : {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] ، وقال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25] ، والدافع إلى هذا النوع من الجدال والمراء هو الكبر في نفوس هؤلاء، كبرٌ يمنعهم من قبول الحق والعمل به ، قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56] ، كما يوجد نوع آخر من هذا الجدل وهو الجدال لإظهار المزية والتقليل من شأن الآخرين: وهذه آفة عظيمة قلَّ من يسلم منها، فهي دأب كثير من الناس في أحاديثهم ومجالسهم ومنتدياتهم. والدافع إلى هذا النوع من الجدال شعور الشخص بتميزه ورجاحة عقله ومحاولة تسفيه آراء الآخرين، وهو من علامات الضلال ؛ ومن أقبح صوره الجدال والمراء لانتزاع حقوق الناس واغتصابها. قال صلى الله عليه وسلم محذرا من هذا ومتوعدا أهله، ففي الصحيحين : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ » ، فالجدال المذموم على هذا النحو ، هو مجلبة للعداوة ،وذريعة للكذب ، وباب من أبواب الفتنة واتباع الهوى ، وسبب من اسباب التفكك الاجتماعي من جراء التعصب الذى يؤل الى التنابز والتنافر وتنامى الحقد والكراهية . ومن آثاره أيضاً تغليف القلب بالقسوة ونزوع الخشية , وكراهية الحق في جانب المغلوب , وتنامى الغرور والكبر في جانب الغالب , فضلاً عما يجلبه للنفس من هم وغم , من حيث أنه شهوة للنفس إذا ثارت لابد من إشباعها , وإلا أصابت صاحبها بالتوتر والقلق اللذان يؤلان الى الكدر والحزن . قال النووي رحمه الله: قال بعضهم : ما رأيت شيئاً أذهب للدين , ولا أنقصَ للمروءة , ولا أضيع لِلَّذة , ولا أثقل للقلب من الخصومة . وقال عبدالله بن حسين بن علي رضي الله عنهم : ( المراء رائد الغضب ،فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب )
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والجدال قد يقصد به أحيانا المحاجة أو المناظرة أو استعراض الآراء المدعومة بالحجج والبراهين التي تدعم رأي أحد المتجادلين أو تدعم وجهة نظره على نظيره الآخر , وقد جاء ذكره في القرآن الكريم تارة بلفظ الجدال وأخرى بلفظ التحاج وثالثة بلفظ المراء . فالله سبحانه وتعالى استخلف الانسان في الارض وأناطه بعمارتها وكلفه بأمانتها , فزوده سبحانه بالقدرات والامكانات التي تمكنه من إيصال رسالته وتعينه على أداء مهمته , التي أبت من حملها المخلوقات , فأشفق الله منها فحملها الانسان , فهذه القدرات المميز بها الانسان عن نظائره من المخلوقات الاخرى , إنما هي إشفاقا من الله على هذا الانسان الظلوم الجهول . والانسان مدنى بطبعه لا يعيش الا داخل جماعة من بنى جنسه يتفاعل معهم , يؤثر فيهم ويتأثر بهم , ويأتي الجدال أو المحاجة أو المناظرة أو استعراض الآراء كمطلب من أهم متطلبات هذا التفاعل , وذلك لحكمة بالغة وغاية نبيلة في استجلاب الحقوق ودفع المظالم , وإعلاء الحق بحق ودحض الباطل بلا باطل . ولهذه الحكمة السامية كان الانسان وما يزال أكثر شيء جدلاً , ومحاجة واستعراضا للآراء في عموم المخلوقات , بيد أن الله سبحانه وتعالى دعا الانسان الى الإيمان به واتباع شرعه , لضبط هذه الغرائز وتنظمها بعيداً عن القمع والكبت أو الإسراف وإطلاق العنان , أما حينما ينزوي الانسان عن دائرة الايمان تتمكن منه غرائزه وتسيطر عليه سيطرة تامة , فتقيد عقله وتجعله في مهمة إشباعها وتهيمن على جوارحه , وتشغل قلبه , فيصير أسير تلك الغرائز , وبذلك تفقد وظيفتها وتنحرف عن مهمتها من مجرد وسيلة ضرورية وإشفاقاً من الله تعالى على ذلك المخلوق لتحقيق غاية العمارة , فيصبح الجدال غاية في حد ذاته
أيها المسلمون
وقد تجنب السلف الخوض في الجدل , وحذروا منه , وورد عنهم آثار كثيرة فيه , نذكر بعضاً منها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً, وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً ) ، وقال ابن عباس لمعاوية -رضي الله عنهما – : هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابي ؟ قال : وما تصنع بذلك ؟ أَشْغَبُ بك وتشغب بي , فيبقى في قلبك ما لا ينفعك , ويبقى في قلبي ما يضرك ) ، وقال الحسن إذ سمع قوماً يتجادلون: (هؤلاء ملوا العبادة , وخف عليهم القول , وقل ورعهم فتكلموا )، وقال ابن أبي الزناد : ( ما أقام الجدلُ شيئاً إلا كسره جدلٌ مثله ) ، وقال الأوزاعي : ( إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ، ومنعهم العمل ) ، وكان أبو قلابة يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم . وجاء رجل إلى الحسن فقال : يا أبا سعيد ، تعال حتى أخاصمك في الدين ، فقال الحسن : (أما أنا فقد أبصرت ديني ، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه ).
الدعاء