خطبة عن التمكين في الأرض (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)
أغسطس 10, 2019خطبة حول قوله تعالى (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)
أغسطس 10, 2019الخطبة الأولى ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (31) محمد
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .وموعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (31) محمد ،ومن أقوال العلماء في تفسيرها : فقد جاء في تفسير الطبري : يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) أيها المؤمنون بالقتل, وجهاد أعداء الله ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ ) أي: حتى يُعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم, وأهل الصبر على قتال أعدائه, فيظهر ذلك لهم, ويُعرف ذوو البصائر منكم في دينه ،من ذوي الشكّ والحيرة فيه ،وأهل الإيمان ،من أهل النفاق، ونبلو أخباركم, فنعرف الصادق منكم من الكاذب . وعن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء, وأنه مبتليهم فيها, وأمرهم بالصبر, وقال ابن عاشور في تفسيره : { ولنبلونكم} : البلو : هو الاختبار وتعرف حال الشيء . والمراد بالابتلاء : الأمر والنهي في التكليف ، فإنه يظهر به المطيع والعاصي والكافر ،ولما كان التكليف مبينا لأحوال نفوس الناس في الامتثال ،وممحصا لدعاويهم ،وكاشفا عن دخائلهم ،كان مشتملا على ما يشبه الابتلاء ، وإلا فإن الله – تعالى – يعلم تفاصيل أحوالهم ، ولكنها لا تظهر للعيان للناس إلا عند تلقي التكاليف ، فالله شرع الجهاد لنصر الدين ، ومن شرعه يتبين من يجاهد ومن يقعد عن الجهاد ، ويتبين من يصبر على لأواء الحرب ومن ينخزل ويفر ، فلا تروج على الناس دعوى المنافقين صدق الإيمان ، ويعلم الناس المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
أيها المسلمون
فاللهَ يبتلي عبادَه حتى يُظهِرَ ويُمَيِّزَ لعبادِه مَنْ هو الصّادقُ المجاهِدُ الذي يَصبِرُ على المشَقّاتِ, ومَنْ هو غيرُ الصّادقِ الذي لا يَصبِر، وليسَ هذا معناهُ أن اللهَ لم يكُنْ عالما مَنْ يُجاهِدُ ويصبِرُ ، فيبتلي النّاسَ لينكشِفَ له ذلك، فليسَ هذا هو المعني، فاللهُ لا يَخفَى عن عِلمِهِ شيء، وهو سبحانه وتعالى يَعلَمُ بعلمِهِ الأزليّ كلّ شيء، ويَعلمُ ما كانَ وما يكونُ وما لا يكون ، قال الله تعالى: { وَأنّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا } الطلاق:12. وفي قوله تعالى : ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) [محمد:31]، أي: حتى يُعلم أوليائي وأهل طاعتي ، ومن هو من حزب الله، ومن هو من حزب المنافقين ، فالله سبحانه وتعالى عالم بالشيء قبل وقوعه وهو الذي كتب كل شيء ،ولكن الله لا يحاسب العباد على العلم المجرد عنده، على علم الغيب، وإنما يحاسبهم على علم الشهادة. والمقصود هنا الابتلاء بالتكاليف الشرعية، بالأوامر، بالنواهي، بالعبادة، بالجهاد، حتى الابتلاء بالحوادث التي تواجه الإنسان وفيها ابتلاء. وفي قوله تعالى : (( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )) (أخباركم) يعني: كلام الناس عنكم، فماذا يقول الناس عنكم؛ فهناك من يتكلم الناس عنه بالطيب فعليه ألا يغتر، وربما يقول الناس عنك سوءاً والله يعلم خلافه ، فلا يضرك، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري : (أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهْىَ تُرْضِعُهُ ، فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تُمِتِ ابْنِى حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا . فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ . ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْي ، وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِى مِثْلَهَا . فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا . فَقَالَ أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِى . وَتَقُولُ حَسْبِي اللَّهُ . وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ . وَتَقُولُ حَسْبِي اللَّهُ » ، فأنواع الابتلاء كثيرة ، فقد تكون فقرا أو مرضا أو تسلط أعداء يسومون المسلمين سوء العذاب ، ولهذا شرع الله الجهاد ,وهيأ له رجالا اختصهم من بين سائر الأنام, فضلا منه وكرما. فالإنسان منذ الولادة إلى الممات , وهو في جهاد وامتحان من الله حتى يعلم الله المجاهدين منا ويعلم الصابرين ,
أيها المسلمون
وقوله تعالى :” وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ” [محمد: 31] .فمن لم يحصن نفسه بالصبر غزته جيوش الأحزان ، وتلاعبت بسخطه ، وضجره ، فإذا هو صريع ، فزع ،قلق ، لا يقوى على مواجهة المضار، ولا تحلو له الحياة ، فالحياة هي مرض بعد عافية ، وفقر بعد غنى ، وفرقة بعد اجتماع، وجوع بعد شبع ، وخوف بعد أمان، فهي لا تثبت على حال.. صعبت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذاء والأكدار يقول ابن الجوزي : ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تكثر فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، إذًا.. فلا مفر للإنسان من المصائب في الدنيا مهما كان شأنه.. ولا مقر له من ركوب الصبر ليعبر به وادي الأحزان.. ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبر شرط السعادة ، وعلاج الأحزان ، فقال : «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنِ جُنِّبَ الفِتَنَ ، و لَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ» [السلسلة الصحيحة] . وهذا رسول الله صلى اله عليه وسلم يجعل الصبر شرط الإيمان، ويمتدح المؤمن الصابر في سياق التعجب من استواء حالات النعمة والمصيبة لديه فيقول : « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ». [رواه مسلم] .
أيها المسلمون
ولما كانت الجنة طيبة . ولا يدخلهما إلا من كان طيباً ،والله طيب لا يقبل إلا طيباً ،لذا جرت سنة الله في عباده الابتلاء بالمصائب والفتن , ولن يتم الفوز والنجاح ،إلا من بعد امتحان ،يعزل الطيب عن الخبيث ،ويكشف المؤمن من الكافر ، كما قال الله سبحانه :(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) آل عمران 179، ومن الابتلاء الذي يبتلي الله به عباده ليتميز به المؤمن من الكافر ما ذكره الله بقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (155) :(157) البقرة ، فالله يبتلي العباد ويحب الصابرين و يبشرهم بالجنة .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ويبتلى الله عباده بالجهاد ، كما قال الله سبحانه وتعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (142) آل عمران . والأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده ليعلم من يشكره عليها ومن ، يشتغل بها عنه ،قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (28) الأنفال ويبتلي الله بالمصائب تارة ،وبالنعم تارة ،ليعلم من يشكر ،ومن يكفر ،ومن يطع ومن يعصي، ثم يجازيهم يوم القيامة : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (35) الأنبياء ،والابتلاء يكون حسب الإيمان فأشد الناس بلاءً الأنبياء , ثم الأمثل فالأمثل ، (فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا . قَالَ « أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ » . قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ « أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا » رواه البخاري ، ويقول العلامة السعدي : هذه حقيقة الدنيا، قد جلاَّها الله لنا كأنها رَأْي عينٍ، وحذَّرنا من الاغترار بها، ورغَّبنا في دار يدوم نعيمُها، ويَسعد مُقيمها، كل ذلك رحمةً بنا، فاغترَّ بزُخرف الدنيا وزينتها مَن نظر إلى ظاهر الدنيا دون باطنها، فصَحِبوا الدنيا صُحبة البهائم، وتمتَّعوا بها تمتُّع السوائم، لا ينظرون في حقِّ ربِّهم، ولا يَهتمون لمعرفته، بل هَمُّهم تناوُل الشهوات من أي وجه حصَلت، وعلى أي حالة اتَّفقت، فهؤلاء إذا حضَر أحدهم الموتُ، قَلِق لخراب ذاته، وفوَات لذَّاته ، وأما مَن نظر إلى باطن الدنيا، وعلِم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها ما يَستعين به على ما خُلِق له، وانتهَز الفرص فجعل الدنيا منزلَ عبورٍ، لا محلَّ حبورٍ، وشقَّة سفرٍ، لا منزل إقامةٍ؛ فبذَل جُهده في معرفة ربِّه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيمٍ، وسرور وتكريمٍ، فنظر إلى باطن الدنيا، حين نظَر المغترُّ إلى ظاهرها، وعمِل لآخرته، حين عمِل البطَّال لدنياه، فشتَّان ما بين الفريقين، وما أبعدَ الفرق بين الطائفتين”.
الدعاء