خطبة عن (الغرور: أسبابه ونتائجه وعلاجه (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)
يناير 19, 2017خطبة عن ( هل لك خبيئة مع الله؟)
يناير 20, 2017الخطبة الأولى ( قيمة الشباب ومكانتهم في الإسلام )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) (54) الروم ، وقال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (15) الأحقاف ، وقال تعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (78) النحل ،وفي الصحيحين 🙁 قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – شَبَابًا لاَ نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهُ – صلى الله عليه وسلم – « يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ »
إخوة الإسلام
الشباب هم عماد حضارة الأمم، وسر نهضتها؛ لأنهم في سن الهمم المتوثبة والجهود المبذولة، وسن الشباب سن البذل والعطاء، سن التضحية والفداء. وغالباً ما يمثل الشباب النسبة العظمى من السكان ، الأمر الذي يقتضي مزيداً من الاهتمام به، واستثماره ، حيث يعتمد نمو خيرات هذه المجتمعات، على مدى وجدوى عنصر الشباب فيها، ولهذا السبب نجد أنه سرعان ما ينهار أي مجتمع ،وتضيع قيمه إذا ما وهن شبابه، ، بينما تتقدم المجتمعات الأخرى وتسبق غيرها معتمدة على فارق الزمن ،في إطلاق هذه الطاقات لأقصى ما تستطيع، وكلما اغتنمت الدول طاقات شبابها في العلم والإنتاج وبناء الحضارة ، زاد إنتاجها وحققت أهدافها. ولأهمية هذه المرحلة من العمر، فقد عني الإسلام بهذه المرحلة من العمر عناية خاصة ، ووجهها للبناء والخير، وجنبها الهدم والشر. فهو يهدف إلى جعل هذه المرحلة من العمر (مرحلة الشباب) مرحلة خير على مستوى الفرد والجماعة. وإذا تأملنا القرآن والسنة ، لوجدنا فيهما اهتماماً خاصاً بمرحلة الشباب، سواء في الثناء وذكر الإنجازات، أو في الإرشاد والتوجيهات الخاصة بهذه المرحلة. فنجد أن القرآن الكريم يحدثنا عن الشباب بأنهم هم الذين اتبعوا الرسل وصدقوهم وآمنوا بهم، فهؤلاء أتباع نبي الله موسى (عليه السلام) يصفهم ربهم بقوله تعالى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } يونس (83) ،فيخبر الله تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من البينات والحجج القاطعات، والبراهين الساطعات، إلا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب، لأن من آمن فهو معرض للإيذاء من فرعون وأعوانه، أما هؤلاء الشباب الأقوياء فقد وطنوا أنفسهم على تحمل المتاعب والمشاق في هذا السبيل، وهم يعلمون أن ما أصابهم في سبيل الله سبحانه وتعالى سوف يلاقون عليه أحسن الجزاء.
كما أن القرآن الكريم قد أثنى على فئة من الشباب ،الذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى ، وكافأهم على ذلك بزيادة الهدى ، حين قال سبحانه وتعالى : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } الكهف 13 ، 14
والفتية في اللغة العربية هم الشباب. وهؤلاء الشباب لهم قصة عجيبة ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ، وهي قصة أصحاب الكهف ، وليس هذا مجال ذكرها ،وأيضا أتباع رسول الله سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) جلهم من الشباب، فقد آمن به أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) وكان عمره نحواً من ثمان وثلاثين سنة، وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أسلم ولم يبلغ الثلاثين من عمره، وكذلك الامام علي ،وعبد الله بن مسعود، وسعيد بن زيد، ومصعب بن عمير، والأرقم بن أبي الأرقم، وخباب، وعشرات غيرهم، بل مئات كانوا شباباً. ففئة الشباب على مدار التاريخ ، وفي جميع الأطوار والأقطار، وعلى اختلاف الدعوات، هم أكثر الناس تأثراً ، وأسرعهم استجابة، بخلاف الشيوخ الذين في الغالب يتمسكون بمعتقداتهم القديمة ،والمتوارثة عن الأجداد ، ويؤثرون موروثاتهم، ولو تبين لهم الحق فيما يدعون إليه. كما يشير القرآن الكريم أيضاً ،أن هذه المرحلة من العمر هي مرحلة القوة التي يعيشها الإنسان بين مرحلتي ضعف، كما في قوله سبحانه وتعالى :{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } الروم (54) ،وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اهتم بالشباب اهتماماً خاصاً، ومن الاهتمام بعنصر الشباب نجد ما يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم من مكانة الشباب الذي ينشأ على طاعة الله سبحانه وتعالى، فهذا الصنف من الشباب لهم مكانة عالية عند الله سبحانه وتعالى حيث ينجيهم من الضيق والكرب الذي يلحق الناس يوم القيامة فيظلهم الله سبحانه وتعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِى الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ » ،كما نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب فئة الشباب ويوصيهم بوصية عظيمة بقوله: « يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ » رواه البخاري ومسلم ففي هذا التوجيه النبوي صيانة للشباب من فساد السلوك والوقوع في الإثم، الذي في الغالب يكون يسببه من الدافع الجنسي، فإن الشهوة الجنسية عند الشاب قوية، وبالتالي فإنها تدفعه إلى ارتكاب المحرمات . ويفيد الحديث أن من قدر على تكاليف الزواج فعليه بالمبادرة، حتى تهدأ نفسه وتسكن شهوته. ولكن من لم يستطع تكاليف الزواج فإن النبي صلى الله عليه وسلم وجهه توجيهاً آخر لحفظ نفسه من عواقب هذه الشهوة، فعليه بالصوم، فإن الصائم يمتنع عن الطعام والشراب من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وهذا مما يسبب له الإحساس بالجوع، والجوع يضعف الشهوة الجنسية عند الإنسان، وبهذا يسلم الإنسان من عواقبها السيئة. وفي هذا الجانب وفي إطار حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الشباب وصيانتهم من عواقب هذه الشهوة نقف مع حوار دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد الشباب الذي جاء يستأذنه في الزنا جاهلاً بحكمه في الإسلام، ففي مسند أحمد (عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى بِالزِّنَا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا مَهْ مَهْ. فَقَالَ « ادْنُهْ ». فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً. قَالَ فَجَلَسَ. قَالَ « أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ . قَالَ « وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ ». قَالَ « أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ « وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ». قَالَ « أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ ».قَالَ لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ« وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ » قَالَ« أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ».قَالَ لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ « وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ». قَالَ« أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ».قَالَ لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ« وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ ». قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ». قَالَ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَىْءٍ ).
أيها المسلمون
وعناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالشباب تتخذ أشكالاً عديدة ، ومنها الوصايا النافعة لهم، ومن ذلك وصيته لابن عمه عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) ، ففي سنن الترمذي (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ « يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ » ، فهذه وصية عظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمه الغلام ابن عباس، وصية يتكفل الله سبحانه وتعالى لمن عمل بها أن يحفظه في أموره كلها، ومن جملتها أعز ما يملكه الإنسان إيمانه بربه، فيحفظه الله سبحانه وتعالى من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة. ويدخل في هذا الحفظ أيضاً حفظ الشاب في ماله وبدنه وأهله وكل أموره.
ومن الوصايا القيمة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الشباب وصيته لأبي ذر (رضي الله عنه) ،ففي سنن الترمذي ومسند أحمد (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ». وهذه الوصية نفسها أوصى بها صلى الله عليه وسلم الشاب معاذ بن جبل (رضي الله عنه) ، ففي مسند أحمد (عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِى. قَالَ « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ » أَوْ « أَيْنَمَا كُنْتَ ». قَالَ زِدْنِى. قَالَ « أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ». قَالَ زِدْنِى. قَالَ « خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ». فالوصية : (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ) توقظ في الشباب مراقبة الله سبحانه وتعالى، وخشيته، في كل زمان ومكان، فالشاب معرض أكثر من غيره للوقوع في المعصية، لقوة دافع الشهوة عنده، فإذا ضعفت نفسه وزلت به قدمه، فإنه يجد في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمحو ذنبه ويريح قلبه. ومن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالشباب ما كان يعاملهم به من التقدير لحقوقهم والاعتراف بمكانتهم، ويدل على ذلك ما يرويه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ،ففي صحيح البخاري : (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ – رضى الله عنه – قَالَ أُتِىَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ ، فَقَالَ « يَا غُلاَمُ أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ » . قَالَ مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) ، وهكذا ، فلم يحتقر الرسول صلى الله عليه وسلم الغلام لصغر سنه ، بل اعترف له بحقه الذي شرعه له الإسلام ، لأنه عن يمين الرسول، فاستشاره في تقديم الشراب إلى من هو أكبر منه، ومن له مكانة عند المسلمين، إلى أفضل هذه الأمة بعد نبيها وهو أبو بكر الصديق (رضي الله عنه). فآثر الغلام أن يشرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم فشرب. أضف إلى ذلك ما كان يقابلهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من السرور وطلاقة الوجه –وهو سيد البشر- كما يروي ذلك الشاب جرير بن عبد الله رضي الله عنه ، ففي الصحيحين (عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ – رضى الله عنه – قَالَ مَا حَجَبَنِى النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – مُنْذُ أَسْلَمْتُ ، وَلاَ رَآنِى إِلاَّ تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى ) ، وفي إطار عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالشباب النابعة من فهم عميق بخصائص هذه المرحلة ، نجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يغفل عن ضبط حماسهم ،وتوجيههم إلى ما يتناسب وطبيعة أعمارهم. ويدل على ذلك قصة الشباب الثلاثة الذي أبدوا حماساً في العبادة، كما يروي ذلك أنس بن مالك (رضي الله عنه) ، ففي صحيح البخاري (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضى الله عنه – يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى » . كل ذلك شفقة من الرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الشباب الذين عزموا على ترك بعض ما أحل الله لهم والاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى. وفي هذا الإطار نفسه نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفق على الشاب عبدالله بن عمرو بن العاص عندما أخذه حماس الشباب في قراءة القرآن كاملاً كل ليلة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ يَحْيَى بْنِ حَكِيمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى قَالَ جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُهُ فِى لَيْلَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ الزَّمَانُ وَأَنْ تَمَلَّ اقْرَأْ بِهِ فِى كُلِّ شَهْرٍ ». قُلْتُ أَىْ رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِى وَمِنْ شَبَابِى. قَالَ « اقْرَأْ بِهِ فِى عِشْرِينَ ». قُلْتُ أَىْ رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِى وَمَنْ شَبَابِى . قَالَ « اقْرَأْ بِهِ فِى عَشْرٍ ». قُلْتُ أَىْ رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِى وَمِنْ شَبَابِى. قَالَ « اقْرَأْ بِهِ فِى كُلِّ سَبْعٍ ».قُلْتُ أَىْ رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِى وَمِنْ شَبَابِى فَأَبَى )
والعناية بالشباب ليست في عصر دون عصر، ولا في مكان دون آخر، بل هي في كل مكان، وفي كل زمان، ولا عجب في ذلك فقد جاء الإسلام بالخير والسعادة لكل البشرية، فمن وفقه الله لهذا الدين سعد في دنياه وأخراه، ومن ضل عن هذا الدين فهو على خطر عظيم.
أيها المسلمون
ومرحلة الشباب ، هي أهم المراحل في عمر الإنسان ، لما تتميز به عن غيرها من المراحل العمرية ، ومن ذلك :
1 – أن مرحلة الشباب هي فترة القوة والإنتاج : ولما كانت هذه المرحلة تتصف بالقوة والنشاط والحيوية، كانت هي مرحلة البناء والإنتاج ،الذي تتطلبه الأمم ، وتقوم عليه الحضارات في كل زمان ومكان. فإن المنخرطين في سلك العمل على اختلاف أنواعه معظمهم من هذه الفئة ، فئة الشباب. 2 – أن مرحلة الشباب أفضل مراحل العمر: وتعود الأفضلية لهذه المرحلة من العمر لما يتمتع به الإنسان فيها من القوة والنشاط، دون غيرها، ولما يتوافر له فيها من كمال الحواس، فهو في هذه المرحلة أقدر على الانتفاع بحواسه من أي مرحلة أخرى. ومما يدل على كون هذه المرحلة هي أفضل مراحل العمر، أن الله سبحانه وتعالى عندما يجازي الناس يوم القيامة، يجعل أهل الجنة شباباً لا يهرمون أبداً. وذلك من كمال السعادة. كما أن راحة الحياة وبهجتها غالباً ما تكون في مرحلة الشباب، فهي مرحلة يتطلع إليها الصغير، ويتمناها الكبير، ولذا فقد بكى عليها الشيوخ ، وتغنى بها الشعراء.وقال قائلهم ( ليت الشباب يعود يوما …. ) ، 3 – أن مرحلة الشباب أطول مراحل العمر: فعمر الإنسان في الغالب بين الستين والسبعين سنة، وبهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سنن ابن ماجة (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:« أَعْمَارُ أُمَّتِى مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ». فنجد أن مرحلة الشباب هي أعلى نسبة في مراحل العمر، لذا فإنه يكون فيها أكثر تجارب الحياة والعمل والإنتاج ، 4 – أن الشباب هم عماد الأمم ، وسر نهضتها ورقيها وتحقيق أهدافها : فعماد أُمة الإسلام وسِرُّ نَهضتها، ومَبعث حضارتها، وحاملُ لوائها ورايتها، وقائدُ مَسيرتها إلى المجد والنصر هم الشباب . والإسلام لَم ترتفع في الإنسانية رايتُه، ولَم يمتدَّ على الأرض سُلطانه، ولَم تَنتشر في العالمين دعوته – إلاَّ على يد هذه الطائفة المؤمنة التي تَربَّت في مدرسة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتخرَّجت في جامعته الشاملة. فهؤلاء الشباب من الرعيل الأوَّل هم الذين حمَلوا راية الدعوة إلى الله، ورَفَعوا لواءَ الجهاد المقدَّس، فحقَّق الله على أيديهم النصر الأكبر ودولة الإسلام الفتيَّة. فالله أكبر نداؤهم ، والجهاد سبيلهم، والموت في سبيل الله أسمى غاياتهم، ولا يُمكن للشباب أن يقوموا بدورهم، ويَنهضوا بمسؤوليَّاتهم، ويؤَدُّوا رسالتهم – إلاَّ بعد أن تكتملَ شخصيَّتهم العلميَّة والدعويَّة والاجتماعية على حدٍّ سواء.
أيها المسلمون
وهناك مجموعة من العوامل التي تُسهم في بناء شخصيَّة الشباب حاملي راية الإسلام، وأهم هذه العوامل:
1- أن يعرف الشاب الغاية التي من أجْلها خَلَق الله الإنسان، وهذه الغاية هي العبادة المُطلقة لله تعالى، والتي من معانيها إخلاص النيَّة لله في القول والعمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبَراء لله ورسوله، واتِّباع هدي النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قولاً وعملاً، ظاهرًا وباطنًا، في الأمر والنهي، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد. 2- أن يتصوَّر الشابُّ الأخطار التي تُحيط ببلاد الإسلام؛ حيث لا يَغيب عن البال أنَّ من أعظم المُخَطَّطات اليهوديَّة في بلاد الإسلام في العصر الحديث، إقامة دولة يهوديَّة في بلاد الإسلام التي هي مَهْدُه وقلبُه النابض، وإشعاعه الهادي. وإن أحلام اليهود وآمالهم لَم تكن قاصرة على إقامة دولتهم المزعومة في بقعة المسجد الأقصى وما حولها، وإنما مُخططهم الرهيب ومؤامرتهم الكبرى، تمتدُّ من النيل إلى الفرات، بل من مُخططاتهم العدوانيَّة: الاستيلاء على المدينة المنورة والمسجد الحرام، كما استَوْلوا على المسجد الأقصى؛ لاعتقادهم الباطل أنَّ هذه البلاد هي بلاد آبائهم وأجدادهم من لَدُن إبراهيم – عليه السلام – إلى عصرنا هذا إلى يوم البعث والنشور.
3- أن يتفاءَل الشاب بالنصر، ويقطع من إحساسه دابر اليأس والقنوط، صحيح أنَّ التآمُر على الإسلام وأهله بلَغ هذا الحد الكبير والمدى الواسع، ولكن ينبغي على المسلمين وخاصة الشباب منهم، ألاَّ يتملَّكهم القنوط في بناء العزَّة، وألاَّ يَستحوذ عليهم اليأس في تحقيق النصر، وذلك لسببين: الأوَّل: لأنَّ القرآن الكريم حرَّم اليأس وندَّد باليائسين، فالآيات صريحة وواضحة في هذا الشأن، ومنها ما يُشير إلى أنَّ اليأس قرينُ الكفر؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]. ومنها ما يُشير إلى أنه قرينُ الضلال؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]. ومن الآيات ما يُنَدِّد بالإنسان اليائس، وتهييجٌ لنفسه الحائرة وقلبه الهالع؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ [الروم: 36]. فمن هذه الآيات القرآنية يَتبيَّن أنه لا يجوز اليأس في دين الله؛ لأن اليأس قاتلٌ للرجال، وهازم للأبطال، ومدمِّر للشعوب، فعلى المؤمن أن يَحْذر من وجهات النظر اليائسة التي تقول: انتهى كلُّ شيء، وعَجَزنا، الْزَمْ بيتك؛ فليس في الجهاد فائدة، أو نحن في آخر الزمان. لذا وجَب على المسلمين أن يُقيموا حكم الله في ربوع الإسلام، وأن يُحَرِّروا الأرض المقدَّسة من بَراثن اليهود، وأن يَسعوا في تكوين وَحدتهم الكبرى، وإلاَّ فإنهم مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ، وأمام الأجيال. الثاني: لأن التاريخ قد برهَن على انتفاضات الأُمم المنكوبة في وجه أعدائها؛ وذلك للأحداث التاريخية الآتية: مَن كان يظن أن تقومَ للمسلمين قائمة لَمَّا استولى الصليبيون على كثيرٍ من البلاد الإسلامية والمسجد الأقصى ما يقارب مائة عام، حتى ظنَّ الكثير من الناس أنْ لا أملَ في انتصار المسلمين على الصليبيين، وأنْ لا رجاء في رَدِّ أرض فلسطين مع مسجدها الأقصى إلى حَوْزة المسلمين، من كان يظنُّ أنَّ هذه البلاد ستُحَرَّر في يوم ما على يد البطل المغوار صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويُصبح للمسلمين من الكِيان والعظَمة والعِزَّة والسيادة ما شرَّف التاريخ. إن التفاؤل بالنصر هو الذي يُعطيه قيمته، وإنَّ القوة المعنوية في الأُمة هي التي تدفَع شبابها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الحاسمة في كلِّ زمان ومكان، فما عليكم يا شباب الإسلام إلاَّ أن تَقطعوا من نفوسكم دابر اليأس والقنوط، وتُقبلوا على الجهاد في سبيل الله برُوح متفائلة وأمل بسَّام، عسى الله أن يُحقِّق على أيديكم نصرَ الإسلام الأكبر ودولته العتيدة، وما ذلك على الله بعزيز. 4- أن يتأسَّى الشاب بأصحاب القدوة في التاريخ، وعلى رأسهم سيدنا محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي سما كلَّ العبقريات البشرية والنُّضج الإنساني الكامل من لَدُن آدمَ – عليه السلام – إلى يوم البعث والنشور، ثم الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – الذين تشرَّفوا بصُحبة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتخرَّجوا في مدرسته الإيمانية والتربوية والجهاديَّة، واكتَسَبوا منه أفضل الأخلاق وأجْمَل الخِصال والصفات، ثم السلف الصالح الذين فَهِموا منهجَ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في جلاله وكماله، ونهج صَحبه العِظام في سيرتهم وجهادهم، فأعطوا للأجيال من بعدهم أسْمى قدوة وأفضل أُسوة، هؤلاء الذين هداهم الله، فبهُداهم يَقتدي المسلم، وبسيرتهم يقتدي الشباب.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قيمة الشباب ومكانته في الإسلام )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وإليكم يا شباب الإسلام نماذجَ خالدة من مواقف أصحاب القدوة في التاريخ؛ لتعرفوا جيدًا كيف تحمَّل هؤلاء في سبيل الدعوة إلى الله الأذى الأكبر، وكيف ذاقوا في الإسلام صنوفَ الاضطهاد، فما وَهَنوا وما ضَعُفوا، وما استكانوا، بل ظلوا مجاهدين مثابرين إلى أن حقَّق الله على أيديهم الفتح المبين والنصر المؤزَّر. فها هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أعطى المثل الأعلى في التضحية والصبر والثبات، فمُشْرِكو مكة قد سَلكوا معه أنواعًا شتَّى من الأذى، وأساليبَ متباينة من الاضطهاد، ليثنوه عن دعوته، ويَصُدوه عن أداء رسالته، فما ضَعُف وما استكان ،وبَقِي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجاهد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة التوحيد والصبر على الأذى والمؤامرات والاعتداء، حتى جاء نصر الله والفتح، وقامَت دولة الإسلام عزيزة كريمة. أمَّا صحابة رسول الله، فقد أعدُّوا للصبر والابتلاء نفوسًا مؤمنة صامدة، وقلوبًا مُطمئنَّة بذِكر الله. فها هو بلال بن رباح – رضي الله عنه – المؤمن الصابر قد تلقَّى في سبيل الله ألوانًا من العذاب وأصنافًا من البلاء، فكلما اشتدَّت عليه وطْأَة الألَم، ووُضِعَت على بطنه الحجارة الثقيلة في وَهَج الظهيرة المُحرق، ازدادَ إيمانًا، وهتَف من الأعماق: أحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ . وهذا مصعب بن عُمير – رضي الله عنه – أسلَم مع الأوَّلين الأوائل في دار الأرْقم بن أبي الأرقم، وكتَم إسلامه خوفًا من أُمِّه وقومه، ولَمَّا كشَفوا أمره أخَذوه، فحَبَسوه وعذَّبوه، فلم يَزَل محبوسًا معذَّبًا، حتى خرَج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجَع مع المسلمين حين رجعوا. وقُتِل – رضي الله عنه – في غزوة “أُحد” شهيدًا، في البخاري : (سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ ، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ نَمِرَةً فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ ، فَأَمَرَنَا النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ) ،وقد وقَف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على هذا الفتى وهو مقتول مُسجًّى في بُردة، فقال له والدموع تتَرقرق من عينيه: ((ما رأيتُ بمكة أحسنَ لِمَّة، ولا أرقَّ حُلَّة، ولا أنعمَ نعمة – من مصعب بن عُمير))، وقرأ عليه قوله تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23] ، وقد قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – في تَعداد مَحامدهم وفَضْلهم، ووجوب التأسِّي بأفعالهم الحميدة: “مَن كان متأسِّيًا، فليتأسَّ بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأُمَّة قلوبًا، وأعمقها عِلمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقومها هَدْيًا، وأحسنها حالاً، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – وإقامة دينه، فاعْرِفوا لهم فضْلَهم واتِّبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم” أمَّا عن سلفِنا الصالح، فسِيَرتهم حافلة بالأمجاد والبطولات، ذاخرة بالتضحيات الغالية في سبيل الحق ورَفْع راية الإسلام، فها هو الشيخ المجاهد العز بن عبدالسلام يُفتي بتحريم بَيْع السلاح في دمشق إلى الصليبيين؛ لأنهم يقاتلون به المسلمين، وتحمَّل من سلطان دمشق إسماعيل الصالح ما تحمَّله من جرَّاء هذه الفتوى. وهكذا يا شباب الإسلام، حينما تتأسَّون بأصحاب القدوة في التاريخ، وتَنتهجون في الثبات نَهْجهم، وتَسلكون في قولة الحقِّ مَسلكهم، وتنظرون إليهم على أنهم مَثَلٌ أعلى، وأُسوة طيِّبة، عندئذ تواصلون المسيرة؛ حتى يُحَقِّق الله على أيديكم إقامة دولة الإسلام المُرتقبة، وما ذلك على الله بعزيزٍ.
أيها المسلمون
ولقد اهتم علماء السلف بالشباب، فها هو ابن شهاب الزهري يقول: (لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، واستشارهم يبتغي حدة عقولهم). وإذا أردت أن تعرف ماهية الأمة وحقيقة أمرها، فلا تسأل عن ذهبها ونشبها وبترولها ورصيدها المالي، ولكن انظر إلى شبابها، فإن رأيته شبابا متدينا متمسكا بقيمه الأصيلة منشغلا بمعالي الأمور، قابضا بأذيال الكمال وأهداب الفضائل -فاعلم أنها أمة جليلة الشأن، رفيعةُ القدر والجاه، قوية البناء، مرفوعة العلم لا ينال منها عدو، ولا يطمع فيها قوى. وإذا رأيت شباب الأمة هابط الخلق والقيم، منشغلا بسفاسف الأمور، يتساقط على الرذائل كما يتساقط الذباب على جيف الفلاة -فاعلم أنها أمة ضعيفة البناء مفككة الأوصال هشة الإرادة، سرعان ما تنهار أمام عدوها، فيستلب خيراتها، ويحقر مقدساتها، ويهين كرامتها، ويشوه تاريخها وثقافتها. إنَّ تعليم الشاب أحكام الدين وشرائعه، وكذلك تعزيز روح الإيمان والأخلاق في نفسه، لهما أثرين كبيرين عليه ، الأول: إرضاء الحسّ الديني الفطري لدى الشاب، والثاني: جعل هذا الحس قادراً على كبح سائر الرغبات الطبيعية والغريزية في أعماق الشاب، والحؤول دون تمرّدها وطغيانها، وذلك لإنقاذه من الضلالة والانحراف. قال تعالى: (لقد خَلَقنا الإنسانَ في أحْسَنِ تَقْويم ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ إلا الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون).سورة التين . وكل إنسان سوف يسأل عن فترة شبابه يوم القيامة , يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : « لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ » رواه الترمذي ،فعلينا أن نولي الشباب اهتمامنا , وأن لا نجعل بيننا وبينهم حواجز تمنعنا من التواصل معهم ،والإنصات إليهم , ومشاركاتهم مشاعرهم وأفكارهم .
الدعاء