خطبة عن: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ. مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)
يناير 1, 2022خطبة عن (درجات الوفاء بعهد الله،والتطهير في الإسلام)
يناير 8, 2022الخطبة الأولى (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (77) النساء
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (77) النساء ، لقد جمعت هذه الآية بين التزهيد في الدنيا ،والترغيب في الآخرة ،والحض على فعل الخير، والزجر عن فعل الشر ، والتحريض على الجهاد، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة الدنيا وحجمها الطبيعي ، فقال صلى الله عليه وسلم :« لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ » رواه الترمذي هكذا حددت الآيات والأحاديث قدر الدنيا ، لنزهد فيها ، ولنخرجها من قلوبنا ، ولنعلم أنها دار امتحان مهما طالت أعمارنا فيها ، قال ابن أبي حاتم : رحم اللّه عبداً صحبها على حسب ذلك ، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه. فيجب أن نتعامل مع الدنيا على أساس أنها دار امتحان ، وليست دار بقاء ، وأن نتعامل معها بأيدينا وليس بقلوبنا ، وأن ننطلق في سعينا بالدنيا من مبدأ إعمار الأرض ، كما أمر الله ، لا منافسة في الجاه والمال ، والتكاثر والتفاخر ، حيث الضغينة تجد مرتعها ،والخراب يجد مكانه، فالدنيا بلغة فانية، ومتعة زائلة، وظلال آفلة، وسحابة حائلة، ولذة ذاهبة، وفتنة راجفة ، وهي أيام قلائل، وظل زائل، وليالٍ قصار، وساعات معدودة، وأنفاس محدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة، وفي صحيح مسلم : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ – وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ – فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ».
أيها المسلمون
وإذا كانت هذه هي حقيقة الدنيا ، فلماذا يتهافت الناس عليها؟ ، ولم يتقاتلون من أجلها؟ ، ولماذا يزهدون في الدار الآخرة ؟ ، ويهربون منها ؟ ، والجواب : لأن متاع الدنيا واقع مشهود، ونعيم الجنة غيب موعود، والناس يتأثرون بما يرون ويشاهدون، ويثقل على قلوبهم ترك ما بين أيديهم ، إلى شيء ينالونه في الزمن الآتي، فكيف إذا كان الموعود ينال بعد الموت؟ ، من أجل ذلك ، قارن الحق تبارك وتعالى بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبين سبحانه وتعالى أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل، وأطال في ذم الدنيا ،وبيان فضل الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها ، قال الله تعالى : (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) [آل عمران: 198]، وقال الله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [ طه: 131]. وقال الله تعالى: (زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَناتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد) [ آل عمران: 14-15]. ولو ذهبنا نبحث في سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا لوجدناه من وجوه متعددة: أولاً : متاع الدنيا قليل، قال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى) [ النساء: 77]. الثاني: هو أفضل من حيث النوع، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم – أفضل مما في الدنيا، بل لا وجه للمقارنة، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ففي الصحيحين : (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا »، وفي صحيح البخاري: (عن أَنَس بْن مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم –قال( .. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ ، لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا ، وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا ، وَلَنَصِيفُهَا – يَعْنِى الْخِمَارَ – خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » ، الثالث : الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول، والروائح الكريهة، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى، والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون، وخمر الجنة كما وصفها خالقها ، قال الله تعالى : (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) (46) ،(47) الصافات ،وماء الجنة لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه ، قال الله تعالى : ( أَنْهَارٌ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) [ محمد: 15]، ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا، كما قال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [ البقرة: 25]. وقلوب أهل الجنة صافية، وأقوالهم طيبة، وأعمالهم صالحة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج، وتستثير الأعصاب، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، قال الله تعالى : (لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ) [ الطور: 23]، وفي الجنة لا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة ، السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا قال الله تعالى : ( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذابًا) [ النبأ: 35]، والجنة دار الطهر والنقاء والصفاء ، الخالية من الأشواب والأكدار، إنها دار السلام والتسليم ، قال الله تعالى : (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) (25) ،(26) الواقعة ولذلك فإن أهل الجنة إذا خلصوا من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض، فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب، وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا، وفي (الصحيحين) في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الْحُسْنِ ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا ، لاَ يَسْقَمُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ ، وَلاَ يَبْصُقُونَ ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ ، وَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الأُلُوَّةُ – قَالَ أَبُو الْيَمَانِ يَعْنِى الْعُودَ – وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ » ، الرابع : أن نعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم، ولذلك سمى الحق تبارك وتعالى ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً، لأنه يتمتع به ثم يزول، أما نعيم الآخرة فهو باق، ليس له نفاد، قال الله تعالى : (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ) [النحل: 96]، وقال الله تعالى : (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ) [ ص: 54]، الخامس : أن العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة يعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران، قال الله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا ». قَالُوا وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « بَرَكَاتُ الأَرْضِ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ قَالَ « لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرِ فَإِنَّهَا تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ ثُمَّ اجْتَرَّتْ وَبَالَتْ وَثَلَطَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ ». فهذا مَثَلٌ ضربه النبي صلى الله عليه وسلم؛ مبيناً أقسام الناس في الانتفاع بالدنيا والتعامل معها ، فالأول : المغترَّ المفرِّط في جمع الدنيا المانع من الحق، فهو كالماشية التي تستكثر مما يُنبت الربيع من جيِّد البقول والعشب ولا تشبع؛ لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونُها عند مجاوزتها حد الاحتمال، فتنشق أمعاؤها، فتهلك أو تقارب الهلاك. والثاني : المقتصد في أخذ الدنيا والانتفاع بها؛ فهو كالماشية التي تأكل الخضر؛ فإنه ليس من جيد البقول التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فيجعلها تنعم وتسمن، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد هَيْجِ البقول ويُبسها؛ حيث لا تجد سواها، وتسمى الجَنْبَة، فلا تكثر الماشية منها، فَأَكْلُها مَثَلٌ لمن يقتصد في أخذ الدنيا؛ فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر؛ فإنها إذا شبعت منها بركت مستقبلةً عين الشمس تستمرئ ما أكلت وتجترّ وتخرج الأذى، فيزول الحَبَط؛ الذي يكون بالامتلاء، وانتفاخ الجوف به. فالتَّعلق بالدنيا ومتاعها، والركون إلى الملذَّات والدُّون من أعظم المعوقات التي تحول بين المؤمن والمعالي ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة : 38] ، والدنيا ومتاعها البراق يمنعان العبد من الوصول إلى العظائم والمكارم وإلى طريق التقوى وتزكية النفس وتربيتها ، قال الله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى : 14 – 17]؛ أي: قد فاز وربح وظفر بالمطلوب وبما يرجوه، ونجا من المرهوب والمكروه، كلُّ من تطهر وتنقَّى باطنُه من الشرك بالله عزَّ وجل، وزكَّى نفسه وطهرها من الشك والنفاق، والمعاصي ومساوئ الأخلاق، ثمَّ تحلَّى بذكر الله، وانصبغ به قلبه ولسانه، قال الله تعالى : {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة : 138].
الدعاء