خطبة عن (أَيَّامُ الصَّبْرِ)
يونيو 22, 2025الخطبة الأولى (قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (11) محمد. وفي صحيح البخاري: (أن الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ – رضي الله عنهما – يُحَدِّثُ قَالَ جَعَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ – وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً – عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ» فَهَزَمُوهُمْ. قَالَ فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ الْغَنِيمَةَ – أَيْ قَوْمِ – الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالُوا وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ. فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَصْحَابُهُ أَصَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلاً، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – أَنْ يُجِيبُوهُ ثُمَّ قَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَّا هَؤُلاَءِ فَقَدْ قُتِلُوا. فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوؤُكَ. قَالَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ. قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ قَالَ «قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ». قَالَ إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ قَالَ «قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»
إخوة الإسلام
هكذا يبين لنا هذا الحديث أنه في غزوة أحد قال أبو سُفيانَ «اعْلُ هُبَلْ، اعْلُ هُبَلْ». و«هُبَلٌ»: اسمُ صَنَمٍ كانَ في الكَعبةِ يَعبُدونَه مِن دُونِ اللهِ، والمُرادُ: (اعْلُ حتَّى تَصيرَ كالجَبَلِ العالي)، فلمَّا سمِعَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلكَ، أمَرَ أصحابَه أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم: «اللهُ أعلى وأجَلُّ»، وقد أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بإجابَتِه؛ لأنَّه بُعِثَ بإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ تعالَى، وإظهارِ دِينِه، فلَمَّا تَكلَّمَ أبو سُفيانَ بهذا الكَلامِ لم يَسَعِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم السُّكوتُ عنه، حتَّى تَعلُوَ كَلِمةُ اللهِ، ثمَّ عَرَّفَهم في جَوابِه، أنَّهم يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ أعلى وأجَلُّ، مِن كُلِّ هذه الأصنامِ التي يَعبُدُها المشرِكون. فقال أبو سُفيانَ: «إنَّ لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم»، والعُزَّى: اسمُ صَنَمٍ كانَ لِقُرَيشٍ، وفيه كِنايةٌ عن أنَّ لِلمُشرِكينَ إلهَ العِزَّةِ الذي يُعِزُّهم، بيْنَما المُسلِمونَ لا إلهَ لهم يُضاهِيه، فلا عِزَّةَ لهم، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم: «اللهُ مَوْلانا، ولا مَوْلى لكم»، أي: إنَّ اللهَ هُوَ الوَليُّ، يَتوَلَّى المُؤمِنينَ بالنَّصرِ والإعانةِ، ويَخذُلُ الكافِرينَ، وأنَّ الأصنامَ لا مُوالاةَ لها، ولا نَصرَ، فبَكَّتَه صلى الله عليه وسلم بذلكَ، ولم يُراجِعْه، وإنَّما تَرَكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُجاوَبَتَه بنَفْسِه؛ تَهاوُنًا به بأنْ يكونَ خَصْمًا له، وأمَرَ مَن يَنوبُ عنه؛ تَنَزُّهًا عنه.
أيها المسلمون
«اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، فما أحوج نحن – المسلمين- اليوم، وخاصة في هذا الزمان (زمان الغربة)، وفي هذه الأيام (أيام الفتن)، أن يرددوا هذه المقولة، وهم يجاهدون أعداءهم: «اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، فهذه الكلمات تعني: (أن الله هو ولي المؤمنين، وناصرهم، وليس لنا ولي أو نصير سواه)، وأما الكافرون فلا مولى لهم، ولا نصير سوى أنفسهم،
«اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، فعَالَم الكُفرِ وَالإِلحَادِ اليَومَ، قد انتَفَشَ بَعدَ أَن أَوقَعَ بِالمُسلِمِينَ، وهو يَظُنُّ أَنَّهُ قَد قَضَى عَلَى كُلِّ غَيرَةٍ وَعِزَّةٍ وَحَمِيَّةٍ في المُسلِمِينَ، وَأَنَّ الجَوَّ قَد خَلا لَهُ، لِيَئِدَ مَا تَبَقَّى في قُلُوبِهِم، وَيُغَيِّرَ دِينَهُم، وَيُسقِطَ قِيَمَهُم، وَيُفسِدَ أَخلاقَهُم، ولَكِنَّ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَنظُرُونَ بِنُورِ اللهِ، وَهُم مِنهُ عَلَى ثِقَةٍ، فهم يَنظُرُونَ لِلأُمُورِ بِمِنظَارِ مُختَلِفٍ، وَيَزِنُونَهَا بِمِيزَانٍ مُغَايِرٍ، إِذْ يَعلَمُونَ عِلمَ اليَقِينٍ أَنَّ نِهَايَةَ الظُّلمِ والظالمين مُؤَكَّدَةٌ، وَأَنَّ هَلاكَ الظَّالِمِينَ حَاصِلٌ لا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ نَصرَ اللهِ لأَولِيَائِهِ كَائِنٌ لا مَحَالَةَ، وَأَنَّ جَزَاءَ المُجَاهِدِينَ في سَبِيلِهِ مَحفُوظٌ لَدَيهِ، وَلَكِنَّهَا حِكَمٌ إِلَهِيَّةٌ بَالِغَةٌ، وَأَقدَارٌ رَبَّانِيَّةٌ مُحكَمَةٌ، وَسُنَنٌ كَونِيَّةٌ جَارِيَةٌ، لا تَتَغَيَّرُ وَلا تَتَبَدَّلُ.
فما يحدث الآن إنما هو ابتِلاءَاتٌ لِمَا في الصُّدُورِ، وَاختِبَارٌ لِلإِيمَانٍ، وَتَمحِيصٌ لِمَا في القُلُوبِ وَتَميِيزٌ لِلخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، لِيَتَمَحَّضَ لِلجَنَّةِ عِبَادٌ مَحَضُوا اللهَ قُلُوبَهُم، وَلِيَتَخَلَّصَ مِن أَوضَارِ الدُّنيَا قَومٌ أَخلَصُوا لَهُ في قَصدِهِم، وَلِيُصطَفَى لِلشَّهَادَةِ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ، وَلِيَبرُزَ لِلعَارِ وَالنَّارِ قَومٌ عَلِمَ اللهُ مِنهُم سُوءَ النِّيَّةِ، وَخُبثَ الطَّوِيَّةِ، فَأَرَادَ العَزِيزُ الحَكِيمُ لهم أَن يُخرِجُوا كُلَّ أَضغَانِهِم، وَيُمسِكُوا جَمِيعَ إِحسَانِهِم، وَأَن يُفتَضَحُوا، حَتى لا يَلتَبِسَ عَلَى أَحَدٍ أَمرُهُم، وَحتى لا يُشَكَّ أحد في عَدَاوَتِهِم وَفَسَادِ مَا هُم عَلَيهِ.
«اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، فَاعلَمُوا أَنَّ العَدُوّ الكَافِر مَهمَا انتَفَشَ أَو تَبَختَرَ، وَمَهمَا أَبرَزَ أَعوَانهُ مِنَ المُنَافِقِينَ رِيشَهُم، وَمَدُّوا أَجنِحَتَهُم، فَإِنَّ في الأُمَّةِ مَن بَاعُوا الأَروَاحَ للهِ، وَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيهِ، وَهُم مَاضُونَ في الجِهَادِ في سَبِيلِهِ، بِأَلسِنَتِهِم وَأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم، وَمَهمَا انخَذَلَ أَيُّ مُجتَمَعٍ مِن مُجتَمَعَاتِ المُسلِمِينَ، أَوِ انشَغَلَ بِشَهَوَاتِهِ، أَو عَبَثَت بِهِ الأَهوَاءُ، فَإِنَّ البَدِيلَ مَوجُودٌ إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَا زَالَ في الأُمَّةِ هُنَا وَهُنَاكَ خَيرٌ، وَنَحنُ نَرَى المُسلِمِينَ – وَللهِ الحَمدُ – عَلَى مُختَلِفِ مُستَوَيَاتِهِم يُسَاهِمُونَ في نُصرَةِ إِخوَانِهِم، بِالتَّصرِيحَاتِ الَّتي تَشفِي الصُّدُورَ، وَبِالقُنُوتِ في الصَّلَوَاتِ، وَبِالدُّعَاءِ وَاللُّجُوءِ إِلى اللهِ في الخَلَوَاتِ وَالجَلَوَاتِ، وَبِالتَّبَرُّعِ لهم بِالمَالِ، وَبِمُقَاطَعَةِ مَصنُوعَاتِ الدُّوَلِ المُعَادِيَةِ، وَكُلُّها أَنوَاعٌ مِن نُصرَةِ المُسلِمِينَ لإِخوَانِهِم. فَعَسَى اللهُ أَن يُبَارِكَ في الجُهُودِ، وَإِن قَلَّت، وَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249] وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:54]، وَفي صحيح مسلم: (أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ».
«اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، فأعداء المسلمين من الَّذِينَ كَفَرُوا، فَإِنَّمَا يُملَى الله تعالى لهم، وَالنَّارُ مَثوًى لهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال:36،37] وَفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي مُوسَى – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». قَالَ ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود:102.
أيها المسلمون
«اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، فقد أكد القرآن بما لا يدع مجالا للشك أن الله عز وجل مولى الذين آمنوا، وأن الذين كفروا لا مولى لهم، فقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ) محمد:11. وفي حادثة الهجرة النبوية بعد أن توكل النبي صلى الله عليه وسلم على الله عز وجل، واتخذ الأسباب المادية، وإذا بقريش تقف على باب الغار، ففي الصحيحين: (عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ – رضي الله عنه – قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَنَا فِي الْغَارِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا»، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحادثة بقوله تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) التوبة:40. وتمر الأيام، فإذا بالمهاجر من مكة يعود لها بإذن الله ورعايته فاتحا منتصراً قائلاً: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) الإسراء:81.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون، عندما قال أصحاب موسى في ذعر وخوف وهلع: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) الشعراء:61؛ إلا أن موسى عليه السلام لم يأخذ برهة من الوقت ليجيبهم على ذلك، بل قال بلسان الواثق بنصر الله وتأييده له: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) الشعراء :62، فجاء الأمر الإلهي: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الشعراء/63-68. فالمؤمن يستيقن بموعود الله ونصره، وأن الله عز وجل يتولى المؤمنين، وهو ناصرهم ومؤيدهم على من ظلمهم وخذلهم، فإن قامت للباطل دولة ساعة، فإن دولة الحق إلى قيام الساعة، قال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون) الصافات:171- 173، وإذا وقع بالمؤمنين بلاء فليس ذلك لهوانهم على الله، بل ليرفع درجاتهم، ويكشف ما في صدور أعدائهم.
أيها المسلمون
«اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، ألا فلنتق الله تعالى، ولنرجع إلى الله رجوع الصادقين، ولنستمسك بحبل الله، ولنحذر ما يراد بنا من الانسلاخٍ من ديننا، والتخلي عن قيمنا، ولننصر الله بتحكيم شرعه، فقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40،41]. فعسى الله أن يبارك في الجهود وإن قلت، وقد قال سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
الدعاء