خطبة عن (ارْتَقِبُوا آيَةَ الدُخَان)
أغسطس 13, 2025الخطبة الأولى (قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (19) محمد، وقال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (35) الصافات، وفي مسند أحمد: (عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ – وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ – فَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا». وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً يَقُولُ شَيْئاً وَهُوَ لاَ يَسْكُتُ يَقُولُ «أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا». وفي رواية: (وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ وَتَتْرُكُوا اللاَّتَ وَالْعُزَّى. قَالَ وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم).
إخوة الإسلام
لم يقتصر الأذى الذي تعرض له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يعرض دينه على القبائل على الاعراض والتكذيب، بل واجه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ما هو أشد وأقسى من ذلك، فقد روى البخاري في تاريخه، والطبراني في الكبير واللفظ له: (عن مُدرك بن منيب العامريّ عن أبيه عن جده ـ رضي اللَّه عنه ـ قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول للناس: قولوا لا اله الا الله تفلحوا، فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بعس من ماء، فغسل وجهه أو يديه، وقال: يا بنية لا تخشي على أبيك عيلة ولا ذلة، فقلت من هذه؟ قالوا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جارية وضيئة)، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ فَيَقُولُ «أَلاَ رَجَلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي». فمنذ أن جهر النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعوته، انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلت عشرة أعوام لا تألوا جهداً في محاربة الإسلام، وإيذائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، واتخذوا لذلك أساليب شتى، وطرقاً متعددة، منها: السخرية، والاستهزاء، والنيل من الرسول – صلى الله عليه وسلم- ورسالته، ورميه بشتى التهم والأوصاف، بغرض صد الناس عنه، فتارة اتهموه بالجنون، كما قال الله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر:6)، وتارة يصفوه بالسحر والكذب، كما قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (ص:4)، وتارة أخرى بأنه شاعر، فقال تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصَّافات:36)، وتارة تعرضوا له بالأذى البدني، ولم يتركوا إيذاءه حتى وهو يدعو قبائل أخرى إلى الإسلام، ورغم ذلك لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسمع عن قدوم لمكة من قبائل أخرى إلا دعاهم للإسلام، وفي سنن البيهقي وصحيح بن حبان: (عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ:… فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ خَرَجْنَا مِنَ الرَّبَذَةِ وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ لَنَا حَتَّى نَزَلْنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَبَيْنَا نَحْنُ قَعُودٌ إِذْ أَتَانَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَقَالَ :« مِنْ أَيْنَ الْقَوْمُ؟». فَقُلْنَا: مِنَ الرَّبَذَةِ وَمَعَنَا جَمَلٌ أَحْمَرُ. فَقَالَ :«تَبِيعُونِى الْجَمَلَ؟ ». قُلْنَا: نَعَمْ فَقَالَ: «بِكَمْ؟». فَقُلْنَا: بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. قَالَ :«قَدْ أَخَذْتُهُ». وَمَا اسْتَقْصَى فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَذَهَبَ بِهِ حَتَّى تَوَارَى فِي حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: تَعْرِفُونَ الرَّجُلَ فَلَمْ يَكُنْ مِنَّا أَحَدٌ يَعْرِفْهُ فَلاَمَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَالُوا: تُعْطُونَ جَمَلَكُمْ مَنْ لاَ تَعْرِفُونَ فَقَالَتِ الظَّعِينَةُ: فَلاَ تَلاَوَمُوا فَلَقَدْ رَأَيْنَا وَجْهَ رَجُلٍ لاَ يَغْدِرُ بِكُمْ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ وَجْهِهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ أَتَانَا رَجُلٌ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهُ أَأَنْتُمْ الَّذِينَ جِئْتُمْ مِنَ الرَّبَذَةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْكُمْ وَهُوَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حَتَّى تَشْبَعُوا وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا فَأَكَلْنَا مِنَ التَّمْرِ حَتَّى شَبِعْنَا وَاكْتَلْنَا حَتَّى اسْتَوْفَيْنَا ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ مِنَ الْغَدِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِى الْعُلْيَا وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ وَأَدْنَاكَ أَدْنَاكَ». وَثَمَّ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلاَءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ الَّذِينَ قَتَلُوا فُلاَنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَخُذْ لَنَا بِثَأْرِنَا فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ فَقَالَ :«لاَ تَجْنِي أُمٌّ عَلَى وَلَدٍ لاَ تَجْنِي أُمٌّ عَلَى وَلَدٍ»..
وهكذا واجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما تعرض له من أذى نفسي وبدني بالثبات على دينه، والاستمرار في دعوته، والصبر على الأذى، ليكون قدوة للمسلمين ـ في كل زمان ومكان ـ وقدوة للدعاة إلى دين الله، في الصبر والثبات، فإذا كان الإيذاء قد نال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلم يعد هناك أحد أكبر من الابتلاء والمحن، وتلك سنة الله مع الأنبياء والمؤمنين، ففي سنن الترمذي: (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً قَالَ «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
أيها المسلمون
قال الله تعالى مخاطبا رسوله والمؤمنين به: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (19) محمد، وقال تعالى عن الكافرين المعذبين: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (35) الصافات، فكلمة التوحيد(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ): كلمة ملك بها المسلمون العرب والعجم، ودانت لهم بها الشعوب والأمم، وهي كلمة أعادت رسم الخريطة البشرية على هذا الكوكب؛ فلم تعرف الدنيا على طول امتدادها ، وكثرة ما غشاها من نوازل تحولاً مفاجئاً؛ يزيل حضارات، ويديل ممالك، ويقيم على أنقاضها بناءً حضارياً إنسانياً، غاية في العظمة والشموخ، كهذا التحول العبقريّ الفريد؛ الذي وقع بسحر “لا إله إلا الله”، فإنَّها بحق معجزة لا تقل روعة وجلالاً عن معجزة القرآن نفسه، كيف وقع هذا الانقلاب الكونيّ بهذه السرعة المذهلة، وكيف جاء على يد فتية نبتوا في الصحراء، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، فلكأنَّ لهذه الكلمة سرُّ الحياة سرى في الموات؛ أو شعاع ثاقب من الأفق البعيد مزق شمل الظلمات، أو نبع ماء تفجر على حين غرة، فإذا الأرض تهتز خضراً وتموج بالنبات.
«أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا»: تملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم، وهذه الكلمة منهج حياة، وطريق نجاة، إنَّها تعني تحرير الناس من كل العبوديات الزائفة، وأنَّها أوسع باب وأسلم طريق إلى الحرية الحقيقية، والحرية كما تعلمون هي العدو اللدود للطغاة المستبدين، وهي كذلك اللغة التي لا يفهمها الساقطون في غياهب العبودية للطغاة المستبدين ،وإنَّ الحرية لهي الأساس الأول والأكبر لحضارة إنسانية راقية تصل الدنيا بالآخرة، وتحقق للناس السعادة في الآخرة والأولى.
«أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا»: فكلمة “لا إله إلا الله” تخط طريق الحرية الحقيقية ،وتخط بذلك طريق الحضارة الكاملة الراشدة؛ لأنَّها – عملياً – تحطم أكبر معوقات التقدم الإنسانيّ، وهو الطاغوت، الذي تجاوز حدَّه بالظلم والقهر والاستبداد والتأله؛ فطغى بهذا التجاوز على حق الإنسان في كل شيء من مقومات الإنسانية؛ لذلك كان أعظم تفسير لكلمة “لا إله إلا الله” في موضعين من كتاب الله، يعلنان الرفض لكل ما يقيد الإنسان، الأول في سورة البقرة: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا) [البقرة:256] والعروة الوثقى هي الحبل الوثيق المحكم المأمون، والمقصود بها كما روي عن بعض السلف هي كلمة ” لا إله إلا الله” والموضع الثاني في سورة الزخرف (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف 26-28) والكلمة الباقية هي كما روي عن بعض السلف “لا إله إلا الله”.
ويزيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إدراكاً لها في هذا الخبر الرائع الذي يضع بين أعيننا صورتين متقابلتين، الأولى لذلك الذي استولت عليه عبادة الدنيا؛ فسقط في جبّ العبودية لها؛ فعجز عن دفع أضعف الأضرار عن نفسه؛ فهو من ثمَّ أعجز عن دفع ظلم الظالمين واستبداد المجرمين، والآخر قد امتطى صهوة جواده حرا طليقا من كل العبوديات بما فيها عبادة الأنا والذات؛ فهو لا يبالي – ما دام على الحقِّ – أهو في المقدمة المنظورة أم في المؤخرة المغمورة، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
«أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا»: ففي سنن أبي داود ومسند أحمد: (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ». ولهذا شرع تلقينها للمحتضر بلين ولطف، وقول مختصر، ففي صحيح مسلم: (أن أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ): بها تعصم الدماء والأموال: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».
(قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا): فهي أول الواجبات، وأفضل الحسنات، وأعظم مكفرٍّ للسيئات، وهي كلمة طيبة تشرح الصدور، وتزيل الهموم، وتفرج الكروب، وتنوِّر الدروب، وهي كلمة التوحيد، ومفتاح دعوة المرسلين، وأول ما يدعى الناس إليها، ففي الصحيحين: (أن ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُعَاذًا نَحْوَ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلُّوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ »، ولهذا تتكاتف جهود دعاة الإسلام لنشرها، وتحقيقها: (فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله)، فأول واجب على العبيد توحيد العبادة لله رب العالمين.
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ): حجاب من النار، ففي صحيح البخاري: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ».
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ): تحرر العبد من الرق لمخلوقين، وتعلق القلب بخالق الخلق أجمعين، وبها أعظم العز والتمكين والنصر على أعداء الدين.
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ): جلابة للنعم، دافعة للنقم، وزكاة القلوب وشفاء الصدور والعيوب. «فيا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا».
الدعاء