خطبة عن (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)
أكتوبر 9, 2025الخطبة الأولى (قِصَّةُ مُوسَىٰ مَعَ الخَضِر: فِقْهُ الاِبْتِلَاءِ وَحِكْمَةُ القَضَاءِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف:٦٥-٦٦].
إخوة الإسلام
هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ من كتاب الله العزيز تَفْتَحُ لَنَا بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ وَالتَّزْكِيَةِ، فَقِصَّةُ نبي الله مُوسَىٰ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَعَ الْخَضِرِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أَحْدَاثٍ تَارِيخِيَّةٍ نَقْرَؤُهَا فِي الْكِتَابِ، وَلَكِنَّهَا مَدْرَسَةٌ رَبَّانِيَّةٌ فِي فِقْهِ الاِبْتِلَاءِ وَالتَّسْلِيمِ لِحِكْمَةِ الْقَضَاءِ. وَقَدْ كَانَ بَدْءُ الْقِصَّةِ أَنَّ نبي مُوسَىٰ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَهُوَ كَلِيمُ اللهِ، وَنَبِيُّهُ الْمُصْطَفَى، سُئِلَ: مَنْ أَعْلَمُ أَهْلِ الأَرْضِ؟، فَقَالَ بِمَا يَعْلَمُ: أَنَا، فَعَاتَبَهُ رَبُّهُ عَلَى أَنْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللهِ، فَدَلَّهُ عَلَى عَبْدٍ صَالِحٍ عِنْدَهُ عِلْمٌ لَدُنِّيٌّ، هُوَ الْخَضِرُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَذَهَبَ مُوسَىٰ إِلَيْهِ فِي رِحْلَةٍ شَاقَّةٍ، حَتَّى وَجَدَهُ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمَا الْمُعَاهَدَةُ: أَنْ يَتَّبِعَ مُوسَىٰ الْخَضِرَ لِيَتَعَلَّمَ مِمَّا عُلِّمَ، عَلَى أَنْ يَصْبِرَ وَلَا يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يُحَدِّثَهُ الْخَضِرُ بِذِكْرَاهُ، وَهُنَا بَدَأَتِ الْأَحْدَاثُ الَّتِي تَبْدُو فِي ظَاهِرِهَا غَرِيبَةً شَاذَّةً، وَلَكِنَّهَا فِي بَاطِنِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى رَحْمَةٍ وَحِكْمَةٍ، وَتَدْبِيرٍ مِنَ اللهِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ. فَرَكِبَا فِي سَفِينَةٍ، فَخَرَقَ الْخَضِرُ السَّفِينَةَ. فَاعْتَرَضَ نبي مُوسَىٰ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ يَرَى خَرْقًا فِي مَالِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ؟، ثُمَّ مَضَيَا، فَوَجَدَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ الْخَضِرُ، فَاشْتَدَّ إِنْكَارُ مُوسَىٰ. ثُمَّ وَصَلَا إِلَى قَرْيَةٍ، فَبَنَى الْخَضِرُ جِدَارًا كَادَ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقَامَهُ دُونَ أَجْرٍ. فَتَعَجَّبَ مُوسَىٰ وَقَالَ: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا.
ثُمَّ جَاءَتِ الْحِكْمَةُ الْبَاهِرَةُ، فَقَالَ الْخَضِرُ: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ [الكهف:٧٩-٨٢].
يَا عِبَادَ اللهِ: انْظُرُوا إِلَى مَا ظَهَرَ لِمُوسَىٰ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ: خَرْقٌ، وَقَتْلٌ، وَتَعَبٌ بِلَا مُقَابِلٍ، ثُمَّ انْظُرُوا إِلَى مَا بَطَنَ مِنَ الْحِكْمَةِ: حِفْظُ مَالٍ، وَإِبْقَاءُ دِينٍ، وَصِيَانَةُ يُتْمٍ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُؤْمِنِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، يَرَى مِحْنَةً وَشِدَّةً، وَفِي طَيَّاتِهَا مَنْحَةٌ وَرَحْمَةٌ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تُعَلِّمُنَا أُمُورًا عَظِيمَةً: أَوَّلُهَا: أَنَّ عِلْمَ اللهِ أَوْسَعُ مِنْ عُقُولِنَا، قال تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:٧٦].
وَثَانِيها: أَنَّ الْبَلَاءَ الَّذِي يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ فِي بَاطِنِهِ خَيْرًا وَفَضْلًا، قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:٢١٦].
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الصَّبْرَ مِفْتَاحُ الْفَرَجِ، وَمَنْ تَسَلَّحَ بِالصَّبْرِ أَدْرَكَ رَحْمَةَ اللهِ وَمَعُونَتَهُ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ التَّسْلِيمَ لِحُكْمِ اللهِ وَقَضَائِهِ هُوَ طَرِيقُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِذَا رَأَيْتَ – أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ – شَرًّا يَنْزِلُ بِكَ، أَوْ بَلَاءً يُحِيطُ بِأَهْلِكَ، فَاذْكُرْ قِصَّةَ مُوسَىٰ مَعَ الْخَضِرِ، وَتَذَكَّرْ أَنَّ وَرَاءَ الأَكْمَةِ مَا وَرَاءَهَا، وَأَنَّ رَبَّكَ أَرْحَمُ بِكَ مِنْ نَفْسِكَ، وَأَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِكَ مِنْ عَقْلِكَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (قِصَّةُ مُوسَىٰ مَعَ الخَضِر: فِقْهُ الاِبْتِلَاءِ وَحِكْمَةُ القَضَاءِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير:٢٩]. فقِصَّةَ مُوسَىٰ مَعَ الْخَضِرِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عِبْرَةٍ تُقْرَأُ، بَلْ هِيَ مِرْآةٌ تُرِيكَ حَقِيقَةَ حَيَاتِكَ كُلِّهَا، فَكَمْ فِي حَيَاتِنَا مِنْ أُمُورٍ نَظُنُّهَا شَرًّا، ثُمَّ يَكْشِفُ اللهُ عَنْهَا فَتَكُونُ خَيْرًا، وَكَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ رَآهَا الْمَرْءُ سَقَمًا وَهِيَ فِي حَقِيقَتِهَا نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ، فالْخَضِر لَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ بَدَا لِلنَّاسِ أَنَّهُ ظُلْمٌ، وَفِي بَاطِنِهِ إِنْقَاذٌ لِأَصْحَابِهَا، وَإِذَا قَتَلَ الْغُلَامَ فَقَدْ ظَنَّ مُوسَىٰ أَنَّهُ جَرِيمَةٌ، وَفِي حَقِيقَتِهِ رَحْمَةٌ بِأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ. وَإِذْ أَقَامَ الْجِدَارَ بِلَا أَجْرٍ فَقَدْ رَآهُ مُوسَىٰ تَعَبًا ضَائِعًا، وَفِي بَاطِنِهِ حِفْظٌ لِكَنْزِ الْيَتِيمَيْنِ.
وَهَكَذَا أُمُورُ الْحَيَاةِ، ظَاهِرُهَا فِي عُيُونِنَا قَدْ يَكُونُ بَلَاءً، وَبَاطِنُهَا عِنْدَ رَبِّنَا كُلُّهُ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
ومِنْ دُرُوسِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَثِقَ فِي رَبِّهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِ، وَأَنْ يُوَقِنَ أَنَّ قَضَاءَ اللهِ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ ظَهَرَ أَوِ اسْتَتَرَ، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد:٢٢-٢٣].
ومِنْ دُرُوسِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: أنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ يَعْرِفُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْقَضَاءِ رِبْحٌ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ فَوْزٌ، وَحُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ نَجَاةٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» [رواه مسلم].
فَكُنْ – أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ – عَلَى جَادَّةِ الصَّبْرِ، وَتَسَلَّحْ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَيْرَ قَدْ يَكُونُ فِي مَا كَرِهْتَ، وَالشَّرَّ قَدْ يَكُونُ فِي مَا أَحْبَبْتَ، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:٢١٦
الدعاء