خطبة عن (فضائل لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مختصرة
يوليو 22, 2024خطبة عن (كن من عباد الرحمن)
يوليو 22, 2024الخطبة الأولى (كظَمْتُ غيظي)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134) آل عمران، وفي سنن الترمذي: (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ».
إخوة الإسلام
إن كَظْم الغَيْظ لخلق كريم، وهو من مكارم الأخلاق، ويؤدي لثمرة عظيمة في حياة الناس، والتحامهم وتآلفهم، وانخراطهم مجتمعاتهم وأسرهم بشكل إيجابي، فمن الملاحظ في المعاملات الاجتماعية بين الناس، أن بعضهم قد يسيئون إلى البعض إساءات مختلفة، بألسنتهم، أو بأيديهم، أو بغير ذلك من جوارحهم، أو في تصرفاتهم المالية، وقد تمس الإساءة النفس، أو تمس العرض والشرف، أو تمس المال والمتاع، أو تمس الأهل والعشيرة. ولما كان الأمر بهذه الصورة، فإن هذه الإساءة لو تعامل معها المرء مستجيبًا لحظ نفسه وهواه، لترتب على ذلك شر عظيم، وفساد ذات البين، وقد يحرص الشيطان عند المنازعات والخصومات على أن يثير غيظ بني آدم وغضبهم؛ لأن ذلك يُسَهِّل عليه سيطرته عليهم، ويدفعهم بذلك إلى شرورٍ غير متوقعة.
ومن هنا كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمنع كيد الشيطان، بكظم الغيظ وعدم إنفاذه، والترغيب في ذلك بالمنزلة العالية يوم القيامة. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية كظم الغيظ، ففي سنن ابن ماجه: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ». وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَأَوْمَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْضِ « مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ أَلاَ إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاَثاً أَلاَ إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِىَ الْفِتَنَ وَمَا مِنْ جُرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلاَّ مَلأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَاناً»، وفي سنن الترمذي: (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»
أيها المسلمون
والشرع المطهر قد أجاز لنا أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به، ولكنه مع ذلك، بيَّن أن العفو وكظم الغيظ أفضل وأحسن، فقال الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (40): (43) الشورى، وهكذا وجه الله تعالى عباده المؤمنين بالتحلي بالصبر وكظم الغيظ، بل والدفع بالتي هي أحسن، قال الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34،35]
ولخلق كظم الغيظ، فضائل متعددة، فمن فضائله: أن كظم الغيظ والعفو عن المسيء من صفات المحسنين: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (134) آل عمران. ومن فضائل كظم الغيظ: اعتداد الجنَّة له بجعل صاحبه معدًّا ومهيئًا للجنَّة: قال الله تعالى: “وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ” [آل عمران: 133-134]. ومن فوائد كظم الغيظ: خضوع العدو وتعظيمه للذي يكظم غيظه: فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” [المؤمنون:96] قال: الصَّبر عند الغَضَب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا عظَّمهم عدوُّهم، وخضع لهم. ومن فوائد كظم الغيظ: أنه سببٌ في دفع الإساءة بالإحسان، والمكروه بالمعروف، والقهر باللُّطف.
أما عن الوسائل المعينة: فمن الوسائل المعينة على كَظْم الغَيْظ: أن يعرف المرء الأجر المترتِّب على كَظْم الغَيْظ والعفو عن المخطئين، ويستشعر أنَّه بذلك يطلب الأجر والثَّواب من عند الله تبارك وتعالى. ومن الوسائل المعينة: رحمة المخطئ والشَّفقة عليه فهي داعيةٌ لكَظْم الغَيْظ، وإخماد نار الغَضَب، وهذا السَّبب قد بيَّنه القرآن الكريم، حيث قال الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” [آل عمران:159]. ومن الوسائل المعينة: أن يربِّي المؤمن نفسه على سعة الصَّدر، فإنَّ سعة الصَّدر تحمل الإنسان على الصَّبر في حال الغَضَب، والعفو عند المقدرة، لذا قيل: (أحسن المكارم؛ عفو المقْتدر، وجود المفْتقر، قال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [الشُّورى:43]. ومن ذلك أيضًا: تعويد النَّفس وتدريبها على خُلُق الصَّبر، فهو خير معين في مواقف الغَضَب. ومن الأسباب أيضًا: أن يقطع المرء الملاحاة والجدل في مواقف الخصومة، وأن لا يتمادى في السُّباب والشَّتائم، وأن يقدِّم المرء مصلحة الاجتماع والأُلفة على الانتقام للنَّفس؛ فإنَّ ذلك يحمِله على كَظم غَيْظه، والتَّنازل عن حقِّه.
فما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم لتقوى الروابط وتتآلف القلوب، ويُبنى ما تهدم من الروابط الاجتماعية، ولننال رضى الله وجنته، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:133،134].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (كظَمْتُ غيظي)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن النماذج المشرفة، والتي يُقتدى بها في كظم الغيظ، ما جاء عن السلف الصالح: قال أحمدُ بنُ عبدِ الأعلى الشَّيبانيُّ: حدَّثني أبو يعقوبَ المدَنيُّ قال: (كان بَينَ حَسنِ بنِ حَسنٍ، وبَينَ عليِّ بنِ الحُسَينِ شيءٌ، فجاء حَسنٌ، فما ترَك شيئًا إلَّا قاله، وعليٌّ ساكِتٌ، فذهَب حَسنٌ، فلمَّا كان اللَّيلُ أتاه عليٌّ، فقرَع بابَه، فخرَج إليه، فقال له: يا بنَ عمِّي، إن كنْتَ صادِقًا فغفَر اللهُ لي، وإن كنْتَ كاذِبًا فغفَر اللهُ لك، السَّلامُ عليك، فالتزَمه حَسنٌ، وبكى حتَّى رُثِيَ له، ثمَّ قال: لا جَرَم لا عُدتُ في أمرٍ تكرَهُه، فقال عليٌّ: وأنت في حِلٍّ ممَّا قُلتَ لي)، وعن موسى بنِ طريفٍ قال: (استطال رجلٌ على عليِّ بنِ حُسَينٍ زينِ العابِدينَ، فتغافل عنه، فقال له الرَّجُلُ: إيَّاك أعني، فقال له عَليٌّ: وعنك أُغضي)، وعن أبي رَزينٍ قال: جاءَ رَجُلٌ إلى الفُضَيلِ بنِ بَزوانَ، فقال: إنَّ فُلانًا يقَعُ فيك. فقال: لأغيظِنَّ مَن أمَرَه، يغفِرُ اللَّهُ لي وله. قيلَ: مَن أمَرَه؟ قال: الشَّيطانُ)، وعن جُبَيرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ قال: شَهِدتُ وَهبَ بنَ مُنَبِّهٍ وجاءَه رَجُلٌ، فقال: إنَّ فُلانًا يقَعُ فيك. فقال وهبٌ: أمَا وجَدَ الشَّيطانُ أحَدًا يستَخِفُّ به غَيرَك؟! قال: فما كان بأسرَعَ مِن أن جاءَ الرَّجُلُ، فرَفَعَ مَجلسَه وأكرَمَه)،
وذَكَرَ ابنُ كثيرٍ في مَناقِبِ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ: أنَّ رَجُلًا كلَّمه يومًا حتَّى أغضَبَه، فهَمَّ به عُمَرُ، ثُمَّ أمسَك نَفسَه، ثُمَّ قال للرَّجُلِ: أرَدتَ أن يستَفِزَّني الشَّيطانُ بعِزَّةِ السُّلطانِ، فأنالَ مِنك ما تَنالُه مِنِّي غَدًا! قُم، عافاك اللَّهُ، لا حاجةَ لنا في مُقاوَلتِك، ورُويَ عن عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ أنَّه قال لرَجُلٍ أغضَبَه: لولا أنَّك أغضَبتَني لعاقبتُك! أرادَ بذلك قَولَ اللَّهِ تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران:134]، وعن داوُدَ بنِ أبي هندٍ قال: سَمِعتُ الشَّعبيَّ يقولُ: (ما أورثَني أبَواي مالًا أصِلُهما منه، ولا استَفَدتُ بَعدَهما مالًا أصِلُهما به، ولكنِّي أصبرُ على الغَيظِ الشَّديدِ أكظِمُه، ألتَمِسُ به برَّهما)، وقال عبدُ اللهِ بنُ طاهِرٍ (كنتُ عِندَ المأمونِ ثانيَ اثنينِ، فنادى: يا غلامُ، يا غلامُ، بأعلى صوتِه، فدخَل غُلامٌ تُركيٌّ، فقال: ألا ينبغي للغلامِ أن يأكُلَ أو يشرَبَ، أو يتوضَّأَ أو يصَلِّيَ؟! كلَّما خرَجْنا من عندِك تصيحُ: يا غلامُ، يا غُلامُ! إلى كم يا غلامُ؟! فنَكَّس رأسَه طويلًا، فما شكَكْتُ أنَّه يأمُرُني بضَربِ عُنُقِه! فقال: يا عبدَ اللَّهِ، إنَّ الرَّجُلَ إذا حَسُنَت أخلاقُه ساءت أخلاقُ خَدَمِه، وإذا ساءت أخلاقُه حَسُنَت أخلاقُ خَدَمِه، فلا نستطيعُ أن نسيءَ أخلاقَنا لتَحسُنَ أخلاقُ خَدَمِنا!) وكان سَلمُ بنُ نَوفَلٍ سَيِّدَ بَني كِنانةَ، فوَثَبَ رَجُلٌ على ابنِه وابنِ أخيه فجَرحَهما، فأُتيَ به. فقال له: ما أمَّنك مِن انتِقامي؟ قال: فلِمَ سوَّدْناك إذًا إلَّا أن تَكظِمَ الغَيظَ، وتَحلُمَ عن الجاهِلِ، وتَحتَمِلَ المَكروهَ؟! فخَلَّى سَبيلَه.
الدعاء