خطبة عن حديث (إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ)
مارس 31, 2018خطبة عن اسم الله ( الْوَلِيُّ )
مارس 31, 2018الخطبة الأولى : كن كيف شئت ( فأنت من تصنع حياتك الآن بيديك )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) (18) :(22) الاسراء
إخوة الاسلام
يمر الانسان في حياته بمراحل عدة ، وعوالم متتالية ، تبدأ بالمرحلة الأولى : وهي حياته وهو في عالم الذر ، حيث أخذ الله عليه العهد والميثاق ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (172) :(173) الاعراف، أما المرحلة التالية من أطوار حياتك : فهي مرحلة التكوين في بطن الأم : قال الله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (32) النجم ،وقال تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (6) الزمر وبعد الولادة ، تبدأ مرحلة أخرى : هي : دار الدنيا ، وهي أهم المراحل وأخطرها، لأنها دار العمل والسعي ، ودار التكليف والابتلاء ، ودار التعب والنصب ، ودار الإيمان أو الكفر ، ودار الهدى أو الضلال ، ودار الطاعة أو المعصية ، ودار الاقبال أو التولي والادبار،ودار الجد أو اللعب ، فهذه الحياة الدنيا هي التي تبنى عليها المراحل التالية، قال الله تعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (78) النحل ، وقال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (23) يونس ، وقال الله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (32) الانعام ، وقال الله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (185) آل عمران ، أما المرحلة التالية للحياة الدنيا فهي مرحلة ما بعد الموت ، إنها حياة القبر والبرزخ ، قال الله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) (19) :(22) عبس ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (99) ،(100) المؤمنون ، وقال تعالى : (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (45) ،(46) غافر، وفي صحيح مسلم :(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ،قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْجَنَّةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَالنَّارُ ». قَالَ « ثُمَّ يُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ الَّذِى تُبْعَثُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». ثم نأتي إلى المرحلة التالية والأخيرة ، وتبدأ بعدها حياة الخلود ، إنها الدار الآخرة ، دار الجزاء ، دار السعادة أو الشقاء ،دار القرب أو البعد ،دار النعيم أو العذاب ،دار الرضا أو السخط ،فبعد البعث من القبور ،والحشر والنشور ، وتطاير الصحف ، ونصب الموازين ، ويبدأ العرض والحساب ، والوقوف بين يدي رب الأرباب ، ثم تبلى السرائر ، وتوزن الأعمال ، وتعلن النتائج ، ويحدد المصير ،قال الله تعالى : (يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (7) الشورى ، وقال الله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (83) :(84) القصص، وقال تعالى : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (64) العنكبوت ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (105) :(108) هود، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري :(عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ، ثُمَّ يُنَادِى يَا أَهْلَ النَّارِ ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ..)
أيها المسلمون
ونحن الآن نعيش في مرحلة الحياة الدنيا ، حياة التكليف والعمل ، حياة السعي والجهاد ، حياة الاختبار والامتحان والابتلاء ، وعلى هذه المرحلة من مراحل حياتك تتحدد هويتك ، ويتحدد مصيرك ، وتعلن نتيجتك ، فأنت الآن في هذه الحياة الدنيا تصنع مصيرك بنفسك ، وتحدد حياتك بيدك ، فقف وانتبه ، وفكر وتأمل وتدبر وقرر ، ماذا تريد أن تكون ؟ ، وكيف تعيش حياتك في دار الخلود ، دار القرار ، دار الجزاء ؟ فكن كيفما شئت ، فأنت الآن تصنع حياتك بعملك وكسب يدك ، وأنت الآن المسؤول عن كلّ ما يحدث خلالها ، ويجب أن تفهم أنك لست الضحية ،بل أنت المسؤول عن الحياة التي تعيشها اليوم وغدا ، وأنك لست من المشاهدين ، بل أنت بطل تلك القصة، فالدنيا التي نعيشها دار سفر لا دار إقامة، وهي منزل عبور لا موطن حبور، فينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم، فالسعيد من اتخذ لهذا السفر زادا ،يبلغه إلى رضوان الله تعالى ، والفوز بالجنة والنجاة من النار. إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق .. والليالي متجر الإنسان والأيام سوق ،قال الله سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾. الإسراء 19 . ويقول سبحانه: ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾.الاسراء 20. فالأعمال التي نقوم بها في هذه الدار ،حسنة كانت أو سيئة ، كلها بذور تنمو في مزرعة هذا العالم، فالدنيا مزرعة الآخرة، وكل امرئ يحصد هناك ، ما يزرع هنا ، ولا يضيع عمل عامل، قال الله تعالى : (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (195) آل عمران ،وقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (97) النحل ،وقال الله تعالى : (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (36) :(49) المدثر ،فعمر الإنسان في هذه الحياة محصور، ودرجته في الآخرة مبنية على هذه الأيام التي تعيشها، فإذا قدمت لنفسك صالحاً كنت من السعداء، وإذا أهملت نفسك في هذه الحياة وفرطت في ساعاتك ندمت في الآخرة، والله عز وجل ذكر أنك مرهون في الآخرة بعملك في الدنيا، قال سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (39): (42) النجم ، وروي أن ابن مسعود قال: “إنكم في ممر من الليل والنهار ،في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة ،والموت يأتي بغتة ،فمن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا فيوشك أن يحصد ندامة ،ولكل زارع مثل ما زرع”.
فاغتنموا في هذه الأيام القلائل لتلك الأيام الطوال، فالمغبون من أنفق عمره في غير طاعة الله ، والزاهد من ترك كل شيء يشغله عن طاعة الله. ويقول الامام علي بن أبي طالب: “إن أخوف ما أخاف أتباع الهوى وطول الأمل، فأما أتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، ألا وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ،ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ،ولا تكونوا من أبناء الدنيا ،فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل”. وما أجمل قول من قال :
ألا العمْرانُ فيها للخرابِ …. أَمانِيُّ الدنى مِثْل السرابِ
عَظيم ُالشيء في الدنيا صغيرٌ …. وما فيها يؤولُ إلى تُرابِ
إذا اسْتَحْسَنْتَ في الدنْيا جمالاً …. طلوعُ الشمْسِ ثُمَّ إلى غيابِ
إذا أغراكَ فيها جَمْعُ مالٍ …. فَظُلْمُ المال يوقِعُ في العذابِ
إذا استهوتْكَ في الدنيا نِساءٌ …. فحورُ العِينِ أعْظمُ للثَّوابِ
إذا اسْتَعْظَمْتَ فيها مُلْكَ عَبْدٍ …. ألا كُلُّ الملوكِ إلى تبابِ
إذا اسْتَمْرأتَ فيها حُسنَ عَيْشٍ …. فمغرورٌ بأحْلام ٍ كِذابِ
يَلَذُّ المرْءُ في الدنيا بخَمْسٍ…. فَشَتَّانَ القشورُ مِنَ اللبابِ
طعامٌ أوْ كِساءٌ ثُمَّ طيبٌ ….نكاحٌ ثُمَّ ماءٌ للشرابِ
طعامٌ يا أخي أزكــاهُ شَهْدٌ …. صِناعَةُ نَحْلَة ٍعَجَبُ العُجابِ
كساءُ المرءِ أبْهاهُ حريرٌ …. لدودِ القَزِّ مصنوعُ الثِّيابِ
وأفْضَلُ طيبها في العطر مِسْكٌ …. دَمُ الغُزلانِ عِطْرُكَ للتّصابي
وأعلى شهوةٍ فيها نِساءٌ …. غرورٌ في الجمال وفي الشّبابِ
أمَغرور بحَيْضٍ أو نفاسٍ …. ويذوي الحُسْنُ ثُمَّ إلى ذهابِ
وعَذْبُ الماءِ أفضلها شراباً …. فمشروبُ الخلائقِ والدَّوابِ
فَتِلْكَ عظائمُ الخيراتِ فيها …. كَشَعْرِ الشَيْبِ غُطِّيَ بالخِضابِ
ونَبْت باخضرارٍ قَدْ تَبَدّى …. وغـُذِّيَ في المزابِلِ والخَرابِ
اتبني مسكنا للعيش فيه …. ببحر مائج او قلْبِ غابِ
هي الدنيا فَلَيْسَ لها أمانٌ ….لها نابٌ كأفعى ذاتِ نابِ
وتُفْجَعُكَ الدُّنى في كُلِّ يَوْمٍ …. بمالٍ أوْ بأهْلٍ أو صِحابِ
ودُنْيا لَفْظُها المَعْنى دَنيءٌ …. وإمّا المَوْتُ يدنو باقْترابِ
أشَبِّهُها عجوزاً ذات قُبْحٍ …. وتَقْتُلُ كُلَّ زَوْجٍ بالحِرابِ
أتَرْضى أنْ تكونَ لها قرينا ….وزوجاً لَسَتَ تَعْجَزُ عَنْ جوابِ
فـذو عَـقْـلٍ يَمُرُّ بها كَجِسْرٍ …. لِيَعْبُرَهُ إلى دارِ الإيابِ
ومزرعة لزَرْعِ الخَيْرِ فيها …. لِيَحْصُدَ زَرْعَهُ يَوْمَ الحِسابِ
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية ( أنت من تصنع حياتك الآن بيديك )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فمن أراد الرفعة والرقي إلى المقامات السنية ،فعليه أن يتعب ،ويعمل ،ويكن في ازدياد لعمل الآخرة ،ويطرح الكسل وراء ظهره ،لأن الدنيا زائلة والآخرة ينفع فيها التقوى وهما ضرّتان إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. قال بعض العلماء : “الدنيا والآخرة مثل المشرق والمغرب كلما اقتربت من واحدة ابتعدت عن الأخرى”. ويقول الله تعالى: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} التوبة 38. وروى مسلم : (عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ« يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي ،مَالِي – قَالَ – وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ». ونحن – المسلمين – نؤمن أننا سنبعث بعد الموت لا محالة، وسنقف بين يديِّ الله تعالى للحساب العادل، ويكون الحساب بحسب أعمالنا في الدنيا، فمن آمن وعمل الصالحات وغلب خيرُه على شره ،فإن الله تعالى يتغمده برحمته، ويدخله الجنة ،جزاء بما عمل في الدنيا. قال الله تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل، 32) ، وأما من كفر ،ومات على كفره ،فسيُخلَّدُ في جهنم جزاء وفاقا، لأنه أعرض عن الايمان، بالرغم من أنّ الله تعالى فطره عليه، لكنه استحب العمى على الهدى ،فكان جزاؤه من جنس عمله. يقول الله تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (طه، 125) ، أما المؤمن الذي غلبت سيئاته على حسناته فربما يتغمده الله برحمته ويدخله الجنة، وإما أن يدخل النار فيمكث فيها ما استحق أن يمكث، ثم يخرج منها إلى نعيم الجنة بفضل إيمانه. يقوله سبحانه :{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران، 185)
والإسلام أقام توازناً بين الدنيا والآخرة ، وأنشأ ترابطاً وثيقاً بينهما لتكون الدنيا مزرعة الآخرة ، فلا يجوز للمسلم أن ينصرف إلى الحياة الدنيا انصرافاً كلياً ،ولا أن تستغرقه ملذاتها وشهواتها ، كما لا يجوز له أن يعرض عنها إعراضاً تاماً ، وهذا التوازن هو الذي دعا إليه القرآن الكريم كما في قوله تعالى : [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ] {القصص:77} . وقد ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: (الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ) ، فالإسلام دين ودنيا، يرعى روح المرء وجسمه، بتوازن رائع منسجم تمام الانسجام الدعاء