خطبة عن (كظَمْتُ غيظي)
يوليو 22, 2024خطبة عن (البخل أصل النقائص)
يوليو 23, 2024الخطبة الأولى (كن من عباد الرحمن)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (63): (76) الفرقان
إخوة الإسلام
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الثقلين من الجن والإنس لعبادته، فقال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وحقيقة العبودية أن يكون المؤمن متوجهاً إلى الله تعالى، ومحكّماً لشرعه في كل أحواله، وأقواله، وأخلاقه، وتعاملاته مع الآخرين؛ وقد وصف الله سبحانه بعض عباده المؤمنين بأنهم (عباد الرحمن)؛ لأن وصفهم بعبودية الرحمن أكمل وأجلّ، إذ أن العبودية المطلقة لله، فالكل عبيد لله تعالى، المؤمن والكافر، والعاصي والمطيع، فقال سبحانه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) [مريم:93]. ولكن (عباد الرحمن) هم المؤمنون العاملون، هم المنسوبون إلى الله وحده، فكما أنَّ هناك عِبادًا للشيطان وللطاغوت وللشهوات، فهناك عباد لله الرحمن، وعباد الرحمن نسَبهم الله إلى ذاته، فالرحمن سبحانه هو الذي عِلم أنهم أهلٌ لرحمته، وأنَّ رحمته تحيطهم من كل جانب؛ قال تعالى: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴾ [مريم:61]. ويذكر الله تعالى لنا صفات هؤلاء العباد (عباد الرحمن)، لنتخلق بها، ونلتحق بهم في الدنيا والآخرة، فأول صفة من صفات (عباد الرحمن) أنهم: (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)؛ فصفة المشي لها عند الله قيمة؛ لأنها تُعبِّر عما في داخل الإنسان، وعن مشاعره وأخلاقه، فالمتكبرون والمتجبرون لهم مشية، والمتواضعون لهم مشية، وكلٌّ يمشي معبرًا عما في داخله، فعباد الرحمن يمشون على الأرض هونًا، متواضعين هيِّنين ليِّنين، يَمشون بسكينةٍ ووقار، بلا تجبُّر واستكبار، ولا يستعلون على أحد من عباد الله تعالى، لأن عاقبة التكبر وخيمة، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وفي سنن الترمذي: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ». ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيِّدُ المتواضعين، فكان يمشي خلف أصحابه كواحدٍ منهم، ويجلس بينهم، لا يتميز عليهم، ففي صحيح البخاري: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي الْمَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «قَدْ أَجَبْتُكَ»، وفي سنن أبي داود وغيره: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالاَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلاَ يَدْرِى أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ)، وكان صلى الله عليه وسلم في بيته يعمل في مهنة أهله، فيرقع ثوبه، ويَخصف نعله، ويحلب شاته. ومن صفات عباد الرحمن: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، والجاهل: هو السَّفيه الذي لا يزن الكلام، ولا يضع الكلمة في موضعها، ولا يدرك مقاييس الأمور، فعباد الرحمن لا يلتفتون إلى جهل هؤلاء الجهال، وسفه هؤلاء السفهاء، ويترفعون عن الرد عن كل سب، وشتم واستهزاء، إنما هم أكرم وأرفع: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان:63]. أي نسلم أنفسنا بعدم الرد عليكم، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ». وفي سنن الترمذي: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ»، وفي الصحيحين: (أَنَّ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – زَوْجَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ»، ومن صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)، فهؤلاء القوم أحبوا الله تعالى، وتشوقوا إلى الوقوف بين يديه، فإذا خيَّم الليل عليهم، وأرخى سدوله، وأوى الناس إلى فرشهم، كان عباد الرحمن مع ربهم، قائمين بين يديه، وراكعين ساجدين، تقربا إليه، واستسلاما له، وطلبا لرحمته، خاشعين خائفين طائعين، قال تعالى عنهم: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر:9]. وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»، وفي مسند أحمد وغيره: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفاً يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا». فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هِيَ قَالَ «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَصَلَّى للَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»، ومن صفات عباد الرحمن: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ)، وهذه الصفة هي لصيقة بقيام الليل، تابعة له، لمناسبتها أن يكون هذا الابتهال والتضرع لله تعالى فيها، في أثناء التهجد والقيام، وهذه الصفة تعني أنهم أهل خشية من الله، وأهل شفقة على أنفسهم من عذاب الله، فهم يخشون الله، ويحرصون على طاعته، ويخافون عقابه، ويحذرون بطشه ونقمته، فهم يخافون العذاب الذي أعده الله تعالى للعصاة المذنبين، ويعلمون بأنهم ليسوا قادرين على تحمل ذلك العذاب، (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) فهذه الخشية من عذاب الله، إذا ما توافرت في النفس، كفتها عن الشرور، ودفعتها الى فعل الخيرات، وهل يجترئ على المعصية إلا من خلا قلبه من خشية الله تعالى، ومن صفات عباد الرحمن: (إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، فهم أهل اعتدال، ليس عندهم شطط ولا تضييع، لا في الأفعال، ولا في الأقوال، ولا في الأعمال، أو الإنفاق، وليسوا أهل ضعف ووهن، بل هم أهل صبر على تحمل الأذى، وهم أهل نشاط في نهارهم وليلهم، بفعل الطاعة، وهم ليسوا أهل إسراف ولا تقتير، فلا يصل بهم الإنفاق الى حد السرف، ولا يصل بهم الاقتصاد الى حد البخل، بل هم معتدلون في إنفاقهم، فالإسلام مبني على التوسط والاعتدال، في كل شيء، حتى في عبادة الإنسان لربه، لأن التوسط روح الدين، قال تعالى : (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (29) الاسراء، وفي الصحيحين: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه – يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، ومن صفات عباد الرحمن: (لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ): فهم لا يشركون بالله، لأن الشرك ظلم عظيم، وذنب كبير، فهو من أعظم الذنوب، ففي كتاب الله العزيز: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان (13)، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ «الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ»، وفي مسند أحمد: (أن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الآيَةِ (يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ أَشْرَكَ فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ «إِلاَّ مَنْ أَشْرَكَ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ). ومن صفات عباد الرحمن: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ): فقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (93) النساء، وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». وفي صحيح البخاري: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)، وفيه: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (كن من عباد الرحمن)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن صفات عباد الرحمن: (وَلَا يَزْنُونَ): فالزنا من أكبر الكبائر، قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (32) الاسراء، والشرع الحكيم نهى عن بعض الأمور سدا لذرائع الوقوع في الزنا، أو الاقتراب من هذا الوحل القذر، فنهى الشرع عن الخلوة بالمرأة الأجنبية، ففي الصحيحين: (النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَقُولُ «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَلاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». ونهى عن الدخول على النساء، ففي الصحيحين: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ «الْحَمْوُ الْمَوْتُ». وأمر الشرع المسلمين بغض أبصارهم، لأن البصر بريد القلب، وأمرهم بحفظ فروجهم، وبستر عوراتهم، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى) النور: (30)، ونهى النساء عن التبرج، ونهى عن مصافحة المرأة الأجنبية. ومن صفات عباد الرحمن: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) : إنها التوبة والعمل الصالح، فهم يسارعون الى التوبة إلى الله إذا ما حصل منهم الخلل، وهذه التوبة تكون مقرونة بالعمل الصالح ، لأن الله تعالى يقول: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) طه: (82)، ومن صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا): فهم لا يحضرون مجالس الكذب، والفسق، واللغو، والباطل، وهم أيضا أبعد ما يكون عن شهادة الزور، ففي الصحيحين: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ». ثَلاَثًا. قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ «أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ». قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ)، ومن صفاتهم أنهم إذا مرُّوا بمجالس اللهو والباطل مرُّوا كرامًا، مسرعين معرِضين؛ ومن صفات عباد الرحمن: (إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا): فهم إذا وُعِظُوا بآيات القرآن، ودلائل وحدانية الله، لم يتغافلوا عنها، وكأنهم صمٌّ لم يسمعوها، وعُمْيٌ لم يبصروها، بل وَعَتْها قلوبهم، وتفتَّحت لها بصائرهم، فخرُّوا لله ساجدين مطيعين. قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} السجدة: (15)، فهم يقابلون سماع آيات الله تعالى بالقبول والافتقار إليها، والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانا سامعة، وقلوبا واعية، فيزداد بها إيمانهم، ويفرحون بها سرورا واغتباطا. ومن صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا): فهم يسألون الله تعالى قائلين: ربنا هب لنا مِن أزواجنا وذريَّاتنا ما تَقَرُّ به أعيننا، وفيه أنسنا وسرورنا، واجعلنا قدوة يُقتدى بنا في الخير، وأوصلنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين، وهي درجة الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم، ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون، وهذا الدعاء وذاك الطلب يدل على قوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم. ثم عقب الله تعالى بعد هذه الصفات بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان:75، 76]، والمعنى: أن أولئك الذين اتصفوا بهذه الصفات السابقة، وهم عباد الرحمن، يُثابون بأعلى منازلِ الجنة برحمة الله، وبسبب صبرهم على الطاعات، وسَيُلَقَّوْن في الجنة التحيةَ والتسليم من الملائكة، فدخول الجنة أمنيةُ كلِّ مؤمن ومؤمنة، فالجنة هي دار النعيم، التي أعدَّها الله لعباده الصالحين، ففي مسند أحمد: (قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا قَالَ « لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ وَمِلاَطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لاَ يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ لاَ يَمُوتُ لاَ تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلاَ يَفْنَى شَبَابُهُ)، والجنة لا شقاءَ فيها ولا نَصَب، ولا جوعَ فيها ولا ظمأ، ولا خصامَ فيها ولا نكد، ولا أسقامَ ولا مرض، ولاهمَّ ولا غمَّ ولا حسد، ولا غِلَّ ولا حزن ولا تعب، قال الله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ [الزمر:20]. فأبشروا يا عباد الرحمن، بتحية الملائكة وسلامهم، قال الله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد:23،24]. فيا مَن صبر في حياته، وجاهد نفسه في عبادة ربِّه، وتَمَسَّك بما تمسَّك به عباد الرحمن، من حُسْن الصفات وصالحها، ويا من تجَنَّب ما تجنبوه من سيئ الصفات وفاسدها، أبشرْ بالراحة الكبرى، في الجنة -إن شاء الله تعالى-.
الدعاء